مع بداية فصل الخريف، حيث تنخفض درجات الحرارة وتتلون الطبيعة بألوانها الدافئة، تبدأ الحقول باستقبال موسم من أعرق المواسم الزراعية وأجملها: موسم قطاف التفاح. تتدلّى الثمار الناضجة من الأشجار، ويعمّ النشاط في البساتين، في مشهد لطالما ارتبط بالفرح والعمل الجماعي. لكن هذا الموسم، الذي كان في الماضي مناسبة تجمع العائلة والقرية بأكملها، لم يعد كما كان، فقد فرضت الظروف الاقتصادية والمناخية تحديات كبيرة، قلبت موازين هذا القطاع، وأثّرت على شكله ومضمونه.
يقول المزارع “أبو محمود” (فلاح منذ أكثر من 30 عامًا): “اعتدنا أن نبدأ قطاف التفاح في أوائل شهر أيلول، ولكن في السنوات الأخيرة تغيّر هذا الموعد بسبب تبدّل المناخ. الصيف أصبح أطول، والشتاء أقصر، مما أثّر سلباً على نمو المحصول وتوقيت نضجه".
وأشار أبو محمود الى "أنه في الماضي، كانت العائلة بأكملها تشارك في موسم القطاف، وكان العمل يتم بروح جماعية جميلة. أمّا الآن، فقد أصبح من الصعب إيجاد عمّال، وإن وُجدوا فالتكاليف مرتفعة جداً".
وأكد "أن كل شيء أصبح مكلفًا: الأسمدة، المبيدات، الوقود، وحتى
الري. وعند بيع المحصول، لا نكاد نغطي جزءاً من هذه النفقات، وهذا أمر مؤلم ومحبط".
وأضاف "بسبب التغيرات المناخية وقلة الإمكانيات، أصبحت بعض الثمار صغيرة الحجم أو مشوّهة، ولا تلقى قبولاً في السوق، رغم أنها صالحة للأكل".
بدوره، قال المهندس الزراعي رائد البركه (متخصص في المحاصيل البعلية والفاكهة): “تأثرت أشجار التفاح بشكل مباشر بالتغير المناخي، حيث أدت درجات الحرارة المرتفعة في الصيف، وقلة الأمطار، إلى ضعف نمو الثمار وتراجع الإنتاج".
ولفت البركه الى "أن المزارعين اليوم يواجهون مصيرهم وحدهم، في ظل غياب الدعم الحكومي أو المؤسسي. لا دعم للأسمدة، ولا للمحروقات، ولا حتى للإرشاد الزراعي".
وأشار الى "أن ظهرت في السنوات الأخيرة حشرات وأمراض جديدة أثرت على صحة الأشجار وجودة المحصول، وتحتاج إلى مبيدات متخصصة يصعب تأمينها".
واعتبر "أن ينبغي توجيه المزارعين نحو استخدام تقنيات حديثة للري والتسميد، واعتماد أصناف أكثر مقاومة للظروف القاسية، إضافة إلى دعم مالي وتقني حقيقي".
أما بائع الفواكه أبو خالد (يعمل في سوق
صيدا منذ 20 عاماً)، فأكد "أن رغم جودة التفاح المحلي، فإن الإقبال على شرائه تراجع بشكل كبير، بسبب ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، فالناس باتوا يشترون الضروريات فقط".
وأوضح أبو خالد "يأتي بعض المزارعين إلى السوق بكمية كبيرة من التفاح، ولكن بسبب كثرة
العرض وقلة الطلب، فهم يضطرون أحياناً إلى بيعها بأسعار زهيدة، أو حتى الاستغناء عنها".
أضاف: “أصبح المستهلك يركّز على الشكل الخارجي أكثر من الطعم، ويفضل الثمار الكبيرة واللامعة، ما يجعل بعض الأنواع الممتازة تُرفض فقط لأن شكلها لا يلفت النظر".
ورأى "أنه في بعض الأحيان، يُباع التفاح المستورد بسعر أرخص من المحلي، بسبب الدعم في بلده الأصلي أو التكلفة المنخفضة، وهذا يؤثّر بشكل مباشر على تجارة التفاح المحلي".
بين جمال الطبيعة وتحديات الواقع، يبقى موسم قطاف التفاح رمزاً لعلاقة الإنسان بأرضه، وجزءاً من ذاكرة الريف وثقافته. ولكن هذه العلاقة اليوم مهددة إن لم تُقدَّم لها يد
العون. المزارع يُكابد ليحافظ على أرضه، والخبير يحذّر من التدهور، والتاجر يواجه كساد السوق. فهل من أمل يُعيد لهذا الموسم
بريقه؟ لعلّ الإجابة تكمن في دعم حقيقي، وتخطيط زراعي مدروس، يُعيد التوازن بين الجهد والمردود.