من الواضح أن التطورات السياسية والأمنية الأخيرة في
لبنان تكشف مجموعة من المؤشرات البارزة التي يمكن قراءتها على أكثر من مستوى. أول هذه المؤشرات أن هناك قرارًا خارجيًا حاسمًا وواضحًا بعدم السماح بانفجار الوضع في لبنان، لا سياسيًا ولا أمنيًا، وبأن استقرار الحكومة
اللبنانية يجب أن يبقى خطًا أحمر مهما كانت التجاذبات الداخلية.
هذا الأمر ظهر بوضوح في أكثر من محطة خلال الأسابيع الماضية، إذ في كل لحظة يقوم فيها "
حزب الله" برفع مستوى التصعيد، تتراجع الحكومة خطوة إلى الوراء بشكل مباشر أو غير مباشر. حصل ذلك مثلًا في قرارات الخامس من أيلول التي شهدت تعديلًا في بعض المقاربات، كما تكرر المشهد نفسه عند تحركات الروشة، وها هو يتجدد اليوم في طريقة التعاطي مع ملف جمعية "رسالات"، حيث بدا أن القرار كان بالاحتواء والتخفيف من التصعيد بدل الذهاب نحو مواجهة مفتوحة قد تطيح بالتوازن الداخلي.
أما المؤشر الثاني الذي لا يمكن تجاهله، فهو أن الزخم السعودي الذي طغى على المشهد اللبناني في الأشهر الماضية بدأ يتراجع تدريجيًا، أو ربما الأدق أن المبادرة التي أطلقها الشيخ نعيم
قاسم باتجاه
المملكة العربية السعودية لم تُقابل برفض كامل كما كان يُعتقد. هذا التبدل في المزاج السياسي يظهر في خفوت اللهجة العدوانية تجاه "حزب الله"في بعض الخطابات والمواقف، ما يوحي بأن الباب لم يُغلق نهائيًا أمام تفاهمات أو تسويات محتملة قد تنضج في مرحلة لاحقة.
من هنا، يمكن القول إن مرحلة شد الحبال بين الطرفين قد تدخل طورًا جديدًا عنوانه البحث عن أرضيات مشتركة بدل البقاء في دائرة التصعيد المستمر.
أما المؤشر الثالث فيتعلق بكل ما يُثار حول احتمال اندلاع حرب إسرائيلية واسعة على لبنان. ورغم كثافة الكلام في هذا السياق، فإن أغلب تلك التقديرات تبدو غير دقيقة أو مبالغًا فيها. على العكس، المعطيات التي ترصدها الجهات المراقبة تشير إلى أن أسباب التصعيد في المنطقة ليست مرتبطة بشكل مباشر بالصراع
الثنائي بين لبنان وإسرائيل بل تتصل بالتطورات الإقليمية الكبرى، سواء في غزة أو في سياق المواجهة الأوسع بين
الولايات المتحدة وإيران.
كل هذه المؤشرات تلتقي عند خلاصة واحدة: هناك إرادة دولية وإقليمية واضحة لمنع الانفجار الشامل في لبنان، وهناك إدراك بأن أي اهتزاز كبير في الاستقرار الداخلي ستكون له تداعيات لا يمكن السيطرة عليها. لذلك، يُعاد ضبط الإيقاع السياسي والأمني كلما اقتربت الأمور من حافة الانفجار، ويُفتح هامشا للحلول الوسط كلما بدا أن المواجهة قد تتدحرج إلى ما هو أبعد من المتوقع.
بهذا المعنى، قد تكون المرحلة المقبلة في لبنان مرشحة لمزيد من التسويات الجزئية والتفاهمات المرحلية التي تُبقي الوضع تحت السيطرة بانتظار اتضاح مسارات الملفات الإقليمية الكبرى.