قد لا يكون جديدًا القول إنّ جلسة الحكومة الأخيرة لم تكن عاديّة، فجلساتها بمجملها في الآونة الأخيرة تكاد تكون "مفصليّة"، يُوضَع مع كلٍّ منها أنّ مصيرها لا يزال على المحكّ، على وقع
النقاش المتواصل بشأن ملفّ "حصر السلاح بيد الدولة". لكن لا شكّ أنّ الحكومة تجاوزت في هذه الجلسة "قطوعًا آخر"، بعدما سُرّب أنّ رئيسها نواف سلام كان يعتزم سحب ترخيص جمعية "رسالات" التابعة لـ"
حزب الله"، على خلفية حادثة إضاءة صخرة الروشة الشهيرة.
برأي كثيرين، فإنّ خطوة كهذه، لو اتُّخذت فعلاً، كانت كفيلة بتفجير مواجهة مفتوحة بين "الحزب" ورئيس الحكومة، وربما بإنهاء الصيغة التوافقية الهشّة التي لا تزال تحفظ عمل السلطة التنفيذية وسط تصعيد إقليمي غير مسبوق. لكن القطوع مرّ، فبهدوءٍ محسوب وبوساطاتٍ متعددة الاتجاهات، جرى تجنّب الانفجار، ولم يصدر أي قرار رسمي بسحب الترخيص، بل اكتفى
مجلس الوزراء، وفق ما تسرّب من نقاشاته، بـ"تعليق" عمل الجمعية مؤقتًا.
وهكذا نجا
لبنان من أزمة جديدة كانت ستعيد إنتاج الانقسام التقليدي بين "الدولة" و"حزب الله"، وتضع الحكومة في موقع الصدام مع أحد مكوّناتها الأبرز، ولو أنّ هذا الصدام يبدو بمثابة "أمر واقع" منذ تبنّي الحكومة الخطّة الأميركية التي تهدف إلى حصر السلاح، إلا أنّه لا يزال مضبوطًا إلى حدّ بعيد. ويبقى السؤال: من كتب "سيناريو التهدئة" هذا، إن صحّ التعبير، وهل تدوم "الهدنة" بين رئيس الحكومة و"حزب الله"، بما يجنّب حكومته مصيرًا لا يريده أيٌّ من الطرفين؟
مصير الحكومة على المحكّ؟
بالنسبة إلى رئيس الحكومة نواف سلام، لم يكن ما جرى تفصيلًا عابرًا. فهو يعتبر أنّ إضاءة صخرة الروشة بصورة الأمينين العامين السابقين لـ"حزب الله" السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين لم تكن تكريمًا بقدر ما كانت تحديًا مباشرًا لتوجيهاته، وهو الذي كان واضحًا بطلبه من المنظّمين الاكتفاء بالوقفة الرمزيّة وعدم إضاءة الصخرة، فضلًا عن توجيهه القوى الأمنية للتصدّي لأيّ محاولة لإضاءتها خلافًا للقانون، وهو ما لم يحصل.
لكن سلام، الذي يعرف تمامًا حدود التوازن داخل حكومته، تراجع في اللحظة المناسبة، ربما بفعل الوساطات التي لم تتأخّر. فالإقدام على خطوة من هذا النوع كان سيُفهم سياسيًا كمواجهة مباشرة مع "حزب الله"، خصوصًا بعد ما اعتبره الحزب "حملة استهداف مقنّعة" تطال مؤسساته الخيرية والاجتماعية تحت ذرائع قانونية، علمًا أنّ الحزب يتّهم رئيس الحكومة صراحةً بتنفيذ إملاءات خارجية تهدف إلى إضعاف
المقاومة.
وبحسب مصادر متابعة، فإنّ اتصالاتٍ مكثفة جرت في الساعات التي سبقت الجلسة، دخل على خطّها رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس مجلس النواب
نبيه بري، في محاولة للتوصل إلى صيغة وسط تحفظ ماء وجه الجميع، بحيث لا تُظهِر رئيس الحكومة خاسرًا، ولا تتيح لـ"حزب الله" استخدام منطق "الانتصار" في وجهه، فكان قرار "التعليق المؤقت" الذي ساعد في سحب فتيل المواجهة، بصورة أو بأخرى.
اختبار الثقة الأخير
لا شكّ في أنّ ما جرى يتجاوز ملفّ جمعية واحدة، فالأزمة التي كادت تنفجر تعبّر عن التوتر العميق بين منطقين لا يزالان يتصارعان داخل الدولة، رغم كلّ المتغيّرات التي شهدها لبنان والمنطقة: منطقٌ يسعى لتكريس مفهوم "السلطة الحصرية" في الأمن والإدارة، وآخر يرى في "المقاومة" وامتداداتها الاجتماعية جزءًا من الهوية الوطنية ومن معادلة حماية لبنان. ومع أنّ حكومة سلام تشكّلت على قاعدة "التسوية الواقعية" بعد حرب
إسرائيل، إلا أنّ خطوط التماس بين مؤسسات الدولة ومحور المقاومة لم تُرسَم نهائيًا بعد، ما يجعل أي تفصيل إداري أو قانوني قابلًا للتحول إلى أزمة سياسية كبرى.
ولعلّ ما يضاعف حساسية المرحلة، أن الحكومة لا تزال منهمكة بملف "حصرية السلاح"، وقد اطّلعت مؤخرًا على التقرير العسكري الأول لقيادة الجيش حول تنفيذ الخطة جنوب الليطاني، وإن جرى التوافق على إبقاء مداولاته سرية لتجنّب أي توظيف سياسي، علمًا أنّ "حزب الله" الذي يصرّ على أنّ سلاحه ليس قابلاً للنقاش، يعتبر أن إثارة الملف في هذا التوقيت "تخدم أجندات خارجية"، ولا سيما أنّها لا تقترن بخطوات إسرائيلية مطلوبة كضمانات.
في المحصّلة، خرج رئيس الحكومة من الجلسة وقد أنجز ما يشبه "تسوية إنقاذية" حالت دون سقوط حكومته، لكنها في الوقت نفسه أكدت أنّ العلاقة بينه وبين "حزب الله" تمرّ في أدقّ مراحلها منذ تشكيل الحكومة. فالثقة بين الجانبين تراجعت بوضوح، والهوامش المتاحة أمام سلام تضيق يومًا بعد يوم، فيما يواصل الحزب توجيه انتقادات علنية لأداء الحكومة، كما فعل النائب حسن فضل الله مؤخرًا حين تحدّث عن "قرارات تستهدف المقاومة بغطاء إداري".
مع أن "القطوع مرّ"، إلا أن الأسئلة تبقى مفتوحة: هل سيكون هذا هو الاختبار الأخير بين سلام و"الحزب"، أم أن الملفات المؤجّلة، من "حصرية السلاح" إلى التعيينات الأمنية، ستعيد إشعال الخلاف عند أول فرصة؟
ما هو مؤكد أن حكومة نواف سلام باتت تعيش على إيقاع التسويات اليومية، وأن قدرتها على الصمود لم تعد مرتبطة فقط بقراراتها الداخلية، بل بمدى نجاحها في تجنّب أي "رسالة" جديدة، من أي طرفٍ كانت.