بعد نحو عامين من الحرب الدامية التي حوّلت قطاع غزة إلى ركام، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، واضعًا حدًا مبدئيًا لواحدة من أكثر الحروب تدميرًا في الشرق الأوسط الحديث. وحمل الإعلان، الذي جاء بعد وساطات مصرية وقطرية ومتابعة ميدانية من الأمم المتحدة، في طيّاته وعودًا بانسحاب تدريجي لقوات الاحتلال، وعودة النازحين، وإطلاق دفعات من الأسرى من الجانبين.
لكنّ ما بعد الاتفاق لا يقلّ أهمية عن نصّه، إذ بدأت في المنطقة عملية قراءة معمّقة لمآلات هذه الهدنة وتداعياتها المحتملة على كلّ الجبهات، ومنها الجبهة
اللبنانية التي اشتعلت أساسًا تحت عنوان "الإسناد" للشعب الفلسطيني في قطاع غزة في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، والتي لم يتوقف لهيبها حتى بعد التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار قبل نحو عام، بدليل الاعتداءات والخروقات
الإسرائيلية اليومية، من دون أيّ رادع من الدول الضامنة للاتفاق.
وبالتزامن مع الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، واحتفالات
الفلسطينيين بالإنجاز الذي طال انتظاره، بعد حربٍ قد تكون الأطول في تاريخ الصراع، ارتفعت في
بيروت الأصوات المطالبة بإلزام إسرائيل بتنفيذ اتفاق وقف النار، في ظلّ مخاوف يثيرها البعض من أن تلجأ إسرائيل إلى التصعيد في
لبنان لتعويض الفراغ الناجم عن حرب غزة، فأيّ انعكاسات محتملة لوقف حرب غزة على الجبهة اللبنانية، وهل تكون خطوة باتجاه تثبيت الهدنة أخيرًا؟!
"الكابوس" انتهى؟!
ربما لم يفهم كثيرون لماذا نجحت مفاوضات شرم الشيخ في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، بعدما أخفقت قبلها عشرات جولات المفاوضات، برعاية الوسطاء أنفسهم، من مصر إلى قطر مرورًا بالولايات المتحدة، خصوصًا أنّ العناوين التي طبعت التسوية الأخيرة تكاد تكون نفسها التي طُرِحت منذ اليوم الأول، على مستوى تبادل الأسرى والرهائن، فضلاً عن انسحاب الاحتلال، وعودة النازحين وغير ذلك.
مع ذلك، فإنّ الاتفاق الذي أبرم أخيرًا جعل الكثيرين في قطاع غزة يتنفّسون الصعداء، خصوصًا أنّه أشّر إلى انتهاء "الكابوس" الذي استمرّ عامين، وأخذ شكل حرب إبادة بأتمّ معنى الكلمة، فقد معها الشعب الفلسطيني كلّ مقوّمات الحياة، حتى تحوّلت في الآونة الأخيرة، إلى حرب تجويع، فضحت عجز المنظمات الأممية والمؤسسات الإنسانية الدولية، أمام آلة الحرب الإسرائيلية في قتل الناس وتشريدهم وتجويعهم، ومنعهم حتى من التنفّس.
ومع أنّ الاتفاق الذي جرى التوصّل إليه أوقف نزيف الحرب بصورة نهائية، إلا أنه يخضع لاختبار قد يكون "ثقيلاً"، خصوصًا أنّ ما تمّ إعلانه حتى الآن ليس سوى اتفاق "المرحلة الأولى"، وهو وفق ما يقول العارفون الجزء الأكثر سهولة في العملية التفاوضية، ولا سيما أنّ هناك قضايا مصيرية وأساسية ما زالت على المحكّ، منها الانسحاب
الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة، وإنهاء الحرب بشكل دائم، وإعادة الإعمار، ما يتطلب الحذر.
لبنان بين الضغط والتهدئة
في هذا السياق، ثمّة علامات استفهام تُطرَح حول "سيناريوهات" مرحلة ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، إذ ثمّة من يعتقد أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يعتاش على الحروب قد يلجأ إلى التصعيد في لبنان وربما في جبهات أخرى لتعويض فراغ غزة، وثمّة من يرى أنّ سيناريو ما بعد وقف إطلاق النار في غزة، قد يكون مثل ذلك المطبّق في لبنان، أي أنّ الهجمات الإسرائيلية لن تتوقف ، تحت مسمّيات واهية من نوع "حرية الحركة" وغير ذلك.
من هنا، فإنّ المزاج العام في الأوساط السياسية والأمنية اللبنانية يسوده الحذر، خشية من أن تسعى إسرائيل إلى استثمار الاتفاق في غزة لتثبيت قواعد اشتباك جديدة في لبنان، أو ربما للانتقال إلى جولة قتال جديدة، من أجل استكمال الأهداف التي لم تتحقق في الجولة الأولى، علمًا أنّ المسؤولين الإسرائيليين وبينهم نتنياهو أكدوا في أكثر من مناسبة أن وقف إطلاق النار ليس وقفًا للحرب، وبالتالي فإنّ المواجهة مع "
حزب الله" لم تنتهِ فصولاً بعد.
إلا أنّ العارفين يعتقدون أنّ هذا السيناريو يصطدم بسلسلة من الوقائع على الأرض، إذ إنّ أيّ مغامرة إسرائيلية لن تمرّ بسهولة، في ظلّ الوساطات الدولية، وإن بدت عاجزة عن الحصول على ضمانات من تل أبيب للمضيّ قدمًا في مشروع سحب السلاح وغيره، ويُضاف إلى ذلك ما يتردد في الأوساط الدبلوماسية الأوروبية عن عودة الاهتمام بدعم الجيش تمويليًا وتسليحيًا، في إطار محاولة لضبط الحدود وإعادة تنشيط القرار 1701 تحت إشراف دولي.
تبدو المنطقة أمام مشهد متشابه في الشكل ومختلف في المضمون: فكما خضعت غزة لاتفاق هدنة أعلنه الخارج وفرضه ميزان القوى، يعيش لبنان منذ عامين على إيقاع هدنة غير مطبّقة، تضمنها معادلات الردع ومخاوف الانفجار الشامل. ومع الإعلان عن اتفاق غزة، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل تلتزم إسرائيل بوقف إطلاق النار، أم "تستنسخ" السيناريو اللبناني؟ وفي حال التزمت، كيف سينعكس ذلك على الجبهة اللبنانية، التي لا يبدو أنّها ستخمد في المدى المنظور؟