عندما تُطلق الرصاصة فإما أن تصيب مقتلًا وإما أن تخيب. ولكن في حقيقة الأمر فإن النتيجة في نهاية الأمر واحدة، وهي فعل إطلاق الرصاصة. وعندما تُطلق هذه الرصاصة على أي هدف كان لا يعود ينفع التأسف والاعتذار والندم. فبمجرد وضع الأصبع على الزناد يكون الضرر قد أصاب الجهة المستهدفة بغض النظر عمّا إذا كان مطلق النار ماهرًا في التصويب والاستهداف أو لم يكن كذلك.
هذا ما حصل قبل أيام عندما أتخذ
وزير الصحة بالوكالة، وزير الزراعة، قرارًا اتهاميًا في حق شركة "
تنورين" لتعبئة المياه بعدما أجريت عليها فحوصات مخبرية، يُقال بأنها لم تكن مطابقة للمواصفات الصحية. وهذا الأمر يذكرّنا بحملات الوزير
وائل ابو فاعور يوم كان وزيرًا للصحة العامة.
وهذه الواقعة تقودنا إلى طرح أكثر من سؤال واستفهام عن دور النظام القضائي في مثل هكذا حالات شبيهة. فهل المتهم بريء حتى إثبات العكس، أو أن المتهم مجرم حتى إثبات العكس. الفرق بين هاتين المعادلتين ليس لغوياً، بل هو فرق فلسفي وأخلاقي، لأنه يحدد إن كانت السلطة القضائية تعتبر الإنسان حراً بطبيعته أم خاضعاً للسلطة افتراضياً.
المبدأ الأول، أي قرينة البراءة، هو حجر الأساس في كل نظام
ديمقراطي يحترم الإنسان وحقوقه. فالأصل في المواطن البراءة، والعبء يقع على الادعاء لإثبات الجرم بالدليل والبرهان، لا على المتهم لإثبات براءته. ومن هنا، يصبح
القضاء حصناً للحرية، لا أداة للانتقام.
هذا المبدأ نصّت عليه الشرائع الدولية، وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما أدرجه
الدستور اللبناني في مقدمته التي تؤكد على العدالة والحرية والمساواة.
في المقابل، عندما ينقلب المبدأ ويُعامل الإنسان كـ "مجرم حتى يثبت العكس"، نكون أمام منظومة قهر لا عدالة، حيث تُصبح التهمة أداة إسكات، ويُستبدل التحقيق بالحكم المسبق، وتضيع الكرامة بين قضبان الظلم.
في مثل هذه الأنظمة، يُسجن الأبرياء باسم الأمن، وتُكمم الأفواه باسم القانون، وتُلغى فكرة العدالة لتحل محلها ثقافة الشبهة والخوف، وتُطلق حملات التجني والتشهير لمجرد الشبهة غير المؤكدة.
من هنا، فإنّ الدفاع عن قرينة البراءة ليس دفاعاً عن متهم، بل عن الحرية نفسها، لأن العدالة الحقيقية لا تبدأ من السجن، بل من الشك المشروع والحق في الدفاع وإثبات الحقيقة بعيداً عن
الهوى والسلطة. فالعدالة التي تنطلق من براءة الإنسان، تبني دولة.
أما العدالة التي تنطلق من تجريمه، فهي تهدم إنسانه قبل أن تهدم مؤسساته.
وهنا ننتقل إلى مسألة الشبهة بأن مياه شركة تنورين ملوثة، بعدما أثارت هذه القضية جدلاً واسعاً في
لبنان لم يخلُ من الاستغلال السياسي، حيث يقف المبدأ القانوني أمام اختبار واقعي: هل تُعامل الشركة كـ "مجرم صحي" قبل إثبات الإدانة، أم يُفترض فيها البراءة حتى تظهر الأدلة القاطعة بالعكس؟
إذا تم الالتزام بمبدأ قرينة البراءة، يكون على الجهات الرسمية أن تُثبت التلوث بالأدلة المخبرية الدقيقة والشفافة، وأن تتيح للشركة حق الدفاع والرد العلمي. أما إذا انطلقت السلطات والإعلام من مبدأ "الاشتباه يساوي الإدانة"، فنكون أمام محاكمة شعبية سريعة تفتقر إلى معايير العدالة وتحوّل القضية الصحية إلى قضية تشهير. العدالة في هذه الحالة لا تُقاس بحجم الغضب، بل بميزان الحقيقة. فإن ثبت التلوث، فالمساءلة واجبة. وإن لم يُثبت، فالتسرع في الإدانة يُعدّ ظلماً لا يقل خطورة عن الجريمة نفسها.
إنّ قضية تنورين تذكّرنا بأن العدالة ليست فقط في قاعات المحاكم، بل في طريقة التفكير والتعامل مع الاتهام. فالبلد الذي يُسرع إلى الإدانة قبل التحقيق، هو بلد لا يحمي لا المستهلك ولا المنتج، بل يهدم الثقة العامة بالقانون نفسه. العدالة الحقيقية تبدأ من احترام المبدأ: المتهم بريء حتى تثبت إدانته، أيًّا يكن اسمه أو موقعه.
فإذا أثبتت التجارب المخبرية الجديدة ووفق المعايير الدولية بأن مياه تنورين غير ملوثة، وهذا مؤكد، فمن يعوّض على أصحاب الشركة ما خسروه من سمعة بعدما تمّ التشهير بها في الأسواق
اللبنانية والعربية، ومن يعوضّ بالتالي على موظفي هذه الشركة، وهم بالمئات. وهذا ما قصدنا به بأن ما بعد إطلاق الرصاصة ليس كما قبل هذا الفعل الجرمي.
وهذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر: إذا ثبت بالتجارب المخبرية، افتراضيًا، بأن هذه المياه ملوثة، وهو ما دحضته التجارب المخبرية الجديدة، فمن يعوض على الناس صحتهم؟
ما حصل في
وزارة الصحة فضيحة الفضائح، إذ كان يُفترض بوزير الوكالة التدقيق قبل التوقيع وإصدار القرار، أو كان عليه انتظار عودة الوزير الأصيل حتى عودته من الخارج. وفي كلا الحالتين فإن الضرر قد وقع، وأن رصاصة التشهير قد أُطلقت، بغض النظر عمّن أطلقها.