ما جرى أمس في مجلس النواب، وما جرى اليوم في مجلس الوزراء، هو نوع من أنواع لحس المبرد. وهو تكرار لمشاهد سابقة مماثلة في الفترة الفاصلة والمكرّرة ثلاث مرّات، الأولى بين انتهاء ولاية الرئيس أميل لحود وبداية ولاية الرئيس ميشال سليمان بعد مؤتمر الدوحة؛ والثانية قبل انتخاب الرئيس ميشال عون؛ والثالثة قبل التوافق على انتخاب الرئيس جوزاف عون. ففي المرّات الثلاث أُقفل مجلس النواب وتعطّل التشريع، وحلّ الفراغ في الموقع المتقدّم في هرمية المسؤولية التراتبية في تركيبة السلطات الثلاث. وكان التعطيل سيد المواقف، ولكن إلى حين نضوج "طبخة" التسويات الخارجية، والتي أنتجت في المرّات الثلاث توافقًا على اسم رئيس الجمهورية.
وكما كانت التسويات الرئاسية تُطبخ في المطابخ الخارجية، وتُقدّم على أطباق من الفضة على الموائد الداخلية، هكذا سيكون الحلّ بالنسبة إلى الانتخابات النيابية، التي سـ "تطير" حتمًا إذا لم يتمّ التوافق بين الأفرقاء المختلفين على الصوت الاغترابي. فلا التعطيل سينجح في كسر إرادة الآخرين، ولا المكابرة تستطيع أن تُنتج حلولًا وسطية مقبولة من الجميع. هذا هو الوضع اليوم. وهكذا كان بالأمس. وهكذا سيكون في الغد.
ثمة فئة كبيرة من المغتربين تطالب بأن تتساوى مع سائر اللبنانيين المقيمين، وأن تُعطى فرصة للمشاركة في قرار تكوين السلطة التشريعية واختيار النواب الـ 128 تمامًا كما كان عليه الحال في العامين 2018 و2022. فما كان جائزًا في السابق، في رأي هذه الفئة، يجب أن يتكرّس بالقانون لضمان حق المغتربين بأن يكون لهم رأي في كل ما له علاقة بالوضع اللبناني الداخلي، وقد تكون مشاركتهم في الانتخابات النيابية، مرّة كل أربع سنوات، وجهًا من وجه المشاركة الفعلية في الانخراط الفعلي في هذه العملية الديمقراطية البحتة، بغض النظر عن أي خلفيات سياسية.
من جهة ثانية، هناك فئة أخرى من المغتربين ترى أن المشاركة الفعلية في تحمّل جزء من المسؤولية الوطنية تكون من خلال انتخاب ستة نواب يمثّلون الطوائف الرئيسية الست كفعل مباشر لكي يكون للاغتراب من ينقل همومه إلى الداخل اللبناني.
الخلاف التقني والسياسي بين هاتين الفئتين كبير كما هو واضح من خلال الحركة الداخلية، التي تمظهرت برفض الرئيس
نبيه بري إدراج اقتراح القانون بصفة المكرّر المعجّل لتعديل المادة 112 من قانون الانتخاب على جدول أعمال الهيئة العامة لمجلس النواب، مع تمسّكه بالسير بالقانون النافذ. وهذا ما حدا بنواب "القوات
اللبنانية" وحزب "الكتائب اللبنانية" ومستقلين، بلغ عددهم 67 نائبًا، إلى مقاطعة ثلاث جلسات تشريعية كتعبير عن رفضهم ما أسموه "استنسابية" في إدارة الجلسات التشريعية.
وأمام هذا الحائط المسدود وجد مجلس الوزراء نفسه أمام خيار التعاون مع مجلس النواب بهدف إيجاد حل وسط لهذه المشكلة، التي يمكن أن "تطّير" الانتخابات في حال بقي كل فريق "متمترسًا" خلف مواقفه. لذلك أعطى الوزراء أنفسهم مهلة اسبوع من خلال إعادة تفعيل اللجنة الوزارية، التي أُسندت رئاستها لنائب رئيس مجلس الوزراء الدكتور طارق متري، لدرس كل الاحتمالات والخيارات، ورفع ما يمكن التوصّل إليه من خلاصات على مجلس الوزراء في جلسته المقبلة يوم الخميس المقبل.
وسيحضر على طاولة بحث هذه اللجنة كل الأفكار والخيارات المتاحة وتقييم كل فكرة على حدة، ومحاولة ملاءمتها مع الواقع السياسي الذي تعيشه البلاد في هذه الظروف الشديدة الحساسية، مع الأخذ في الاعتبار مصلحة الاغتراب قبل أي شيء آخر.
لا نقول جديدًا إذا قلنا إن هذه اللجنة ستجد نفسها محاصرة بالجو السياسي القائم حاليًا في البلاد، على أن تأخذ في حسابها ضرورة إجراء الانتخابات النيابية في موعدها الدستوري. ولأنها لا تريد أن يفنى الغنم ولا أن يموت الذئب، ستلجأ هذه اللجنة إلى حلول وسطية علها ترضي الجميع من خلال بعض الاقتراحات الواردة إليها من الطرفين.
ومن بين هذه الخيارات الذهاب إلى الإمساك بعصا الحلول من الوسط، أي بمعنى أن تُترك للناخب المغترب حرية الاختيار في كيفية التصويت. فأمّا أن يصوّت لـ 128 نائبًا، وكل في دائرته وفق سجل نفوسه، وإما أن يصوّت للنواب الستة بعد إصدار المراسيم التنظيمية لهذه العملية حتى يُزال أي التباس أو غموض حولها. وإمّا أن يفسح في المجال أمام المغتربين بالمجيء إلى
لبنان والاقتراع مباشرة، على ألاّ يُحرم من هذا الحق حتى ولو كان مسجلًا في الخارج.
قد يكون هذه الحلّ واحدًا من بين حلول أخرى ستنكب اللجنة الوزارية على دراستها وإحالته خلاصاتها إلى مجلس الوزراء لإقرار ما يجب إقراره في محاولة أخيرة لإخراج اللبنانيين من عنق زجاجة أزمة الانتخابات النيابية.