من
القصر الجمهوري، أطلقت السيدة الأولى نعمت عون امس مبادرة “مدرسة المواطنية”، لتعيد إلى الذاكرة المعنى الغائب للتربية في
لبنان: أن تكون المدرسة بيتًا للوطن لا مجرد مبنى للتعليم.
في زمنٍ يتآكل فيه الإيمان بالمؤسسات، جاءت المبادرة كحركة مضادة للانحدار، لتقول إن التغيير الحقيقي يبدأ من مقاعد الدراسة، لا من طاولات المفاوضات.
في خطابها، لم تتحدث السيدة الأولى بلغة المجاملة، بل بلغة الرؤية، حين وصفت المدرسة بأنها “مختبر حيّ لصناعة الإنسان اللبناني الجديد”. عبارة تختصر فلسفة كاملة في تربية تُعيد تشكيل علاقة المواطن بدولته، من الوعي إلى الفعل، ومن الشكوى إلى المشاركة.
مدرسة المواطنية... مشروع يستحق المتابعة لا التصفيق
ما تابعناه في
بعبدا ليس حدثًا عابرًا. إنه مشروع يضع الإصبع على الجرح
التربوي: مدرسة فقدت رسالتها، ووزارة غارقة في الروتين، ومجتمع فقد الثقة بالتعليم كقيمة.
“مدرسة المواطنية” ليست مبادرة علاقات عامة، بل اختبارٌ أخلاقي ومهني لمنظومة تربوية هرِمة لم تعد قادرة على التجديد ولا على حماية ما تبقّى من المعلمين والطلاب.
إنها دعوة إلى استعادة دور المدرسة كمصنعٍ للانتماء، لا كمعملٍ للشهادات.
ما قالته وزيرة التربية... وما تجنّبت قوله
قالت
الوزيرة ريما كرامي في كلمتها إن “المدرسة هي نقطة انطلاق أي إصلاح في البلد”، وإن المبادرة “تشجع المدارس على أن تتّسم بصفة مدرسة المواطنية لتربّي مواطنين يتحمّلون مسؤولية النهوض بالوطن”.
جميل هذا الكلام، لكنه يفتح الباب أمام سؤالٍ مزمن: متى تتحوّل وزارة التربية من متفرّجٍ إلى فاعل؟
الوزارة تُجيد المباركة لكل مشروع، لكنها نادرًا ما تتبنّى مشروعًا واحدًا بجرأة التنفيذ. تتحدث كثيرًا عن الإصلاح، لكنها لم تُصلح بعد أدواتها ولا منهجيتها ولا إدارتها.
فكيف يمكن لوزارة لا تملك نظام متابعة وتقييم، ولا خرائط بيانات للمدارس، ولا سجلًا للبرامج المطبقة، أن تدّعي قيادة إصلاح وطني؟
المبادرات لا تُدار بالنوايا الطيبة، بل بالحوكمة والمعرفة والجرأة في اتخاذ القرار.
لقد اكتفت الوزيرة بالثناء اللفظي على المبادرة، لكنها لم تُعلن عن أي خطة أو
التزام فعلي. لم تحدد من سيُشرف، من سيُدرّب، من سيموّل، ومن سيُحاسب.
وبغياب الإجابات، يتحوّل الدعم إلى ديكور مؤسساتي جميل يخفي وراءه عجزًا بنيويًا مزمِنًا في إدارة القطاع التربوي.
إنها وزارة تُكثر الكلام عن “المدرسة المواطنية” فيما مدارسها الرسمية مفتوحة شكلاً، ومقفلة فعلًا أمام أي تطوير حقيقي.
وزارة التربية... إدارة تُدير الأزمة ولا تقود التغيير
لو كانت وزارة التربية تمتلك حدًّا أدنى من أدوات الرصد والتخطيط، لعرفت أن لبنان لا يبدأ من الصفر.
منذ عام 2015، خاضت "مدرسة العزم" في
طرابلس تجربة رائدة في التربية على المواطنة: منهج متكامل، تدريب مستمر، مجالس طلابية، أنشطة مجتمعية، وشراكات محلية.
لكنّ الوزارة لم توثّق التجربة، لم تقيّمها، لم تعمّمها، ولم تبنِ عليها. وكأنها ترفض الاعتراف بما لا يصدر عن مكاتبها وجماعتها .
تتصرف الوزارة أحيانًا كمن يملك الحقيقة وحده، فيما الحقيقة موجودة في الميدان، بين المعلمين والطلاب.
إنها وزارة تُدير التعليم من وراء مكاتبها لا من قلب صفوفها.وهذا فعليا حال وزيرة التربية الحالية.
التربية ليست ورقة في مؤتمر ولا بندًا في بيان، بل سياسة عامة تحتاج إلى شجاعة الاعتراف بالفشل قبل الادعاء بالنجاح.
وحين تكتفي الوزارة بعبارة “ندعم المبادرة” من دون أن تقدم خطة تنفيذ أو إطارًا زمنيًا أو حتى تسمية لجنة متابعة، فإنها في الواقع تُفرغ الدعم من معناه وتُحوّله إلى تواطؤ بالصمت.
حين تتقدّم الرؤية على البيروقراطية
أعترف أنني تأثرت بكلمة السيدة الأولى أكثر من أي خطاب رسمي سمعته مؤخرًا.
ربما لأنها جاءت من قلبٍ مؤمن بأن التعليم ما زال ممكنًا، ومن عقلٍ يرى المدرسة كوسيلة مصالحة وطنية قبل أن تكون مؤسسة تدريسية.
لقد قالت ما لم يجرؤ كثيرون على قوله: إن أزمة لبنان ليست أزمة تمويل، بل أزمة تربية على المواطنة.
إنها رؤية تسبق الدولة نفسها بخطوة. بينما الوزارات تنتظر التمويل، السيدة الأولى أطلقت فكرة، والفكرة – حين تصدق – أقوى من أي موازنة.
خاتمة... كلمة لا تحتمل المجاملة “مدرسة المواطنية” هي لحظة صدق في زمن الخداع. مبادرة تحاول أن تعيد للتربية معناها بعدما فقدت الوزارة بوصلتها.
لقد زرعت السيدة الأولى البذرة، لكنّ الأرض عطشى، والمزارع غائب.
وزارة التربية مطالبة اليوم بأن تتوقف عن إدارة الأزمة، وأن تبدأ بإدارة الرؤية.
المطلوب منها أن تتعلّم من الميدان لا أن تُلقّنه، وأن تُصغي إلى المدارس لا أن تُصدر التعاميم لها.
فالإصلاح التربوي لا يحتاج إلى لجان جديدة، بل إلى إرادة تعترف بأن التعليم في لبنان يحتاج إنقاذًا لا تجميلًا.
وأنا أكتب هذه السطور، لا أمارس النقد بترف، بل بوجع تربوي أعرف تفاصيله.
فمن داخل المؤسسات التي عملت فيها، رأيت كيف تُهمَّش الأفكار حين لا تخرج من “القنوات الرسمية”، وكيف تُحارَب المبادرات حين تُنجز خارج السياق الوزاري.
لكنّي مؤمنة أن التربية ستبقى أقوى من البيروقراطية، وأن الوطن الذي ينهض من صفٍّ مدرسي، لن تسقطه إدارة فاشلة مهما طال زمنها.
“مدرسة المواطنية” ليست درسًا في الوطنية، بل مرآة تكشف من يعمل للوطن ومن يكتفي بالتصفيق له.
وإن كان لا بد من امتحانٍ حقيقي، فليبدأ من وزارة التربية نفسها، فهي اليوم الطالب الأكثر حاجة إلى إعادة تأهيل.
كرامة التربية... وكرامة الوطن
في النهاية، لا يمكن أن تُبنى المواطنة في وطنٍ فقد احترامه لمعلميه ومدارسه.
الكرامة التربوية هي الوجه الآخر للكرامة الوطنية، ومن دونها تبقى القيم التي نلقّنها في الصفوف معلّقة في الهواء.
حين يُهان المعلم في رزقه، ويُختزل التعليم في أرقام الموازنات، لا يمكن أن نربّي مواطنًا حرًّا يؤمن بالعدالة والانتماء.
المواطنة ليست شعارًا نعلّقه في ساحة المدرسة، بل سلوكٌ نمارسه في العدالة، في الإدارة، في الاعتراف بالفضل، وفي احترام العقول.
ولعلّ أعظم ما تفعله السيدة الأولى بمبادرتها أنها أعادت إلينا شيئًا من هذا الإحساس المفقود بالكرامة التربوية، تلك التي تصون المعلم وتُكرّم المتعلم وتُبقي الوطن في وجدان الأجيال.
أما وزارة التربية، فإن أرادت أن تواكب هذا النفس الجديد، فعليها أن تبدأ من هناك — من الكرامة قبل البرامج، ومن الإنسان قبل الخطة.
فالمواطنة لا تُدرَّس... المواطنة تُمارَس، والكرامة لا تُمنَح... الكرامة تُبنى، وكل تربية بلا كرامة، هي وطنٌ يُدرّس أبناءَه كيف يرحلون لا كيف يبقون.