تطلّ أزمة النفايات في 
لبنان مجددًا، لا كحادثة عابرة في شارع مكتظ، بل كمرآة كاملة تعكس عطبًا عميقًا في طريقة الحكم. منذ سنوات، تبدو السلطة وكأنها تدير ملفًا بيئيًا بميزان سياسي، وتتعامل مع النفايات بصفقة مؤقتة لا بخطة دائمة. والنتيجة أن الشاحنات تعرف طريقها إلى المطامر أكثر مما تعرفه الدولة إلى الإصلاح، وأن رائحة العجز تفوح قبل رائحة المكبات. في جوهر هذا الملف، ليست المشكلة “أين نرمي النفايات؟” بل “كيف تُتخذ القرارات؟”. فكل مرة تتكدّس فيها الأكياس السوداء، تُستولد حلول مستعجلة: توسيع مطمر هنا، تمديد عقد هناك، فتح ساحة للطمر “مرحليًا” بانتظار “حلٍّ شامل” لا يأتي. هذا النمط من الإدارة يراكم الخسائر البيئية والصحية، لكنه يراكم قبلها خسارةً أثمن وهي ثقة الناس. فالمواطن، الذي يدفع كلفة النقل والفرز والطمر من ماله وصحته ومعيشته، يتفرّج على دولة تتصرف وكأن النفايات "نازلة" من السماء، لا أنها نتاج حياةٍ يومية يمكن تنظيمها وتحويلها إلى قيمة.
        
        
        
        
لا يختلف اثنان على أن النفايات في الدول التي تحترم نفسها قطاعٌ اقتصاديٌّ كامل ومصدر وظائف وتقنيات وسلاسل توريد، ومادة خام تُسترد وتُباع وتُعاد صناعتها. أما عندنا فالمعادلة معكوسة، تتحول النفايات إلى مدخلٍ للزبائنية، وإلى بندٍ إضافي في دفتر الخلافات، وإلى ورقة ضغط بين بلدياتٍ تُساق إلى العجز وشركاتٍ تنمو في الظل. ما إن تلوح بوادر انفراج حتى تعود العجلة إلى نقطة الصفر، كأن البلاد محكومة بقاعدة ذهبية واحدة: تأجيل المشكلة هو الحل.
الإنصاف يقتضي القول إن إدارة النفايات ليست مهمةً تقنيةً فقط. إنها امتحان حكم. فالفرز من المصدر يحتاج ثقافة عامة وإرادة سياسية، ومحطات المعالجة تحتاج ترخيصًا وتمويلًا ومحاسبة، والتسعير يحتاج شفافيةً تقنع الناس بأن ما يدفعونه يعود إليهم خدمةً ونوعيةَ حياة. كل ذلك يتطلب سلطة قادرة على التخطيط في الأجل 
الطويل، لا سلطة تكتب قراراتها على رُكبِ الاجتماعات الطارئة. حين تُختزل المعالجة في الشاحنة والمطمر، يصبح القطاع كله رهينة “الكيلوغرام” و”الطن”، أي رهينة ما يُنقل ويُدفن، لا ما يُسترد ويُثمَّن. في المشهد اليومي، تفصيلٌ صغير يكشف العطب الكبير. لماذا لا تُعامل البلديات واتحاداتها كشركاء كاملي الصلاحيات؟ هذه الجهات هي الأقرب إلى الناس وإلى جغرافيا النفايات وتحوّلاتها الموسمية، وهي القادرة على بناء حلول لامركزية منخفضة الكلفة وأكثر عدلًا في التوزيع. لكن ما يحدث غالبًا أن البلديات تُستدعى عند الطوارئ وتُهمَّش عند التخطيط؛ تُلام عند التعثّر ولا تُدعم عند التنفيذ. وهذا تمام ما حصل مؤخرا.
أبعد من الجانب الإداري، ثمة كلفة صحية واجتماعية لا تُرى بالأرقام وحدها. في الأحياء القريبة من المطامر، الهواء ليس هواءً، وصباحات الناس محروقة بروائح غازية تثقل صدورهم . المدارس المحاذية للطرقات التي تعبرها الشاحنات تعيش على ضجيجٍ وغبار، والبحر الذي يُفترض أن يكون متنفسًا عامًا يُصبح شاهدًا على ما رُمِي فيه. هذا ليس وصفًا دراميًا، بل واقعٌ يتسرّب إلى تفاصيل الحياة. قد يقول قائل: "فلنُنشئ معامل حرقٍ حديثة ونُنهي الجدل". لكن التجارب الجادّة في العالم تُظهر أن أي تقنية، مهما بلغت حداثتها، تفقد معناها من دون هرمٍ واضح للإدارة يبدأ بالتخفيف وإعادة الاستخدام والفرز ثم المعالجة، ويجعل الطمر أو الحرق خيارًا أخيرًا لا أولًا. التكنولوجيا ليست عصًا سحرية، بل أداة داخل منظومة حوكمة. وإن لم تتبدل طريقة القرار العام، ستتحول أي تقنية إلى اسم جديد للترقيع. المشكلة ليست في الآلات، بل في عقلٍ سياسي يريد من الآلة أن تُسكت 
النقاش لا أن تُحسّن الواقع.
في قلب هذه الأزمة، استحقاقٌ أخلاقي أيضًا: كيف نقنع الناس بالفرز من المنزل إذا كانت الدولة نفسها لا تفرز في سياساتها بين ما يُصلح وما يُعرّج؟ كيف نطلب من التاجر أن يخفف التعبئة إذا كنا نغرق السوق ببضائع بلا معايير واضحة لإعادة التدوير؟ وكيف نعيد الثقة إن لم تُربط العقود بالأداء لا بالكميات، وبالنتائج لا بالوعود؟ المواطن اللبناني جرّب النداءات العاطفية والشعارات الخضراء، وملّ من الصور التذكارية عند افتتاح منشأةٍ لا تعمل بعد أشهر. ما ينتظره بسيط في مبدأه، صعبٌ في تنفيذه: حوكمة تقيس وتكشف وتُحاسب.
وليس من المصادفة أن تعلو أصوات 
المجتمع المدني كلما عادت الأزمة. في غياب قاعدة بيانات علنية، ومؤشرات أداء منشورة، وموازنات تفصيلية لعمليات الجمع والفرز والمعالجة والطمر، يصبح النقاش سجالًا بين اتهامات ونفي. الشفافية هنا ليست ترفًا؛ إنها شرطٌ لصناعة رأيٍ عامٍ مؤيدٍ للحل، وشرطٌ لولادة استثمارٍ خاصٍ شرعي في التدوير والصناعات المرتبطة به. حين يعرف المستثمر أن هناك سياسة مستقرة وطلبًا مضمونًا على المواد المسترجعة، يدخل برأس المال والخبرة، فتنشأ وظائف ويكبر سوقٌ محليّ لا ينمو اليوم إلا في الظل.
يبقى السؤال: لماذا تتعثر القرارات الواضحة؟ الجواب مركّب. جزء منه خوفٌ سياسي من تغييرٍ يمسّ شبكات مصالح قائمة، وجزء منه نقصٌ في القدرة الإدارية والتقنية لدى مؤسساتٍ جرى إضعافها عمدًا أو إهمالها طويلًا، وجزء ثالث هو غياب الرواية الوطنية الجامعة حول ملفٍ حيوي يمسّ الجميع. كأن البلد يحتاج دائمًا إلى حافة الأزمة كي يرضى بالحل الأدنى، ثم يعود إلى عادته القديمة حتى الحافة التالية. هذا بالضبط تعريف سوء الحوكمة: صناعة قرار رهينة اللحظة، لا رؤية.
من هنا، يصبح نقد الحكومة واجبًا مهنيًا وأخلاقيًا. ليس لأنها خصمٌ سياسي، بل لأنها صاحبة ولاية عامة في ملفٍ لا يحتمل الارتجال. كان يمكن، وكان ينبغي، أن يُطرح مسار مختلف: خطة زمنية معلنة، تفويضٌ لامركزيّ حقيقي، تسعيرٌ شفاف للخدمة، عقودٌ مربوطة بالنتائج، بياناتٌ مفتوحة للرقابة الشعبية والإعلامية، وإشراكٌ للخبرات الأكاديمية والقطاعية. كان يمكن أن يُقال للناس: هذه الأهداف لستة أشهر، وهذه لمئة يوم، وهذه لسنة، ومن يُخفق يحاسَب. لكن ما قيل عمليًا هو العكس: تمديدٌ في الظل، ووعودٌ في الضوء.
ومع ذلك، لا يزال الباب مفتوحًا. فالأزمات، وخصوصًا تلك التي تُرى وتُشَمّ، قادرة على فرض التحول حين تتبدّل طريقة التفكير. بداية الطريق كلمة واحدة: الاعتراف. الاعتراف بأن الأزمة ليست أزمة نفايات بل أزمة حوكمة؛ بأن المكبات تكبر لأن القرارات تصغر؛ وبأن تحويل هذا الملف إلى قصة نجاح وطنية ممكنٌ حين تصبح السياسة خادمةً للسياسة العامة، لا سيدتها. بعدها، تسير الخطوات تلقائيًا: تُعطى البلديات ما تستحق من صلاحيات وتمويل، تُبنى محطات معالجة حيث يلزم وبالمقاس الذي يلزم، تُفتح الدفاتر أمام الناس، وتُقاس النتائج لا الأقوال.
في هذا السياق، نقول الناشطة البيئية رؤى سليمان أنّ "البلد يدور في الحلقة نفسها منذ عقد وأكثر: كلّما ضاقت القدرة الاستيعابية لمطمر ما، نبحث عن توسعة أو قطعة أرض جديدة، بدل أن نُخفّض أصلًا الكميات التي تصل إلى المطامر". وتضيف أنّ "هذا المنطق يكلّفنا أكثر مما يَظهر، ليس فقط مالياً، بل صحياً واجتماعياً؛ فالناس يدفعون من أعصابهم قبل جيوبهم حين يعيشون مع روائح مزمنة وشاحنات تعبر أحياءهم يوميًا".
وقالت: "البداية الحقيقية تكون من الاعتراف بأن الملف حوكميّ، لا تقنيّ. التقنية موجودة ومتاحة ومُجرّبة عالميًا: فرز من المصدر، محطات لامركزية، تسميد للعضوي، تدوير للمواد القابلة للاسترداد، مع طمر وحرق كخيار أخير وبشروط صارمة. ما نفتقده هو قرارٌ واضح يحدّد الأدوار، ويموّل البلديات وفق مؤشرات أداء، ويربط عقود الشركات بالنتائج لا بالكميات".
وتشرح أنّ "اللامركزية هنا ليست شعارًا سياسيًا بل أداة إدارة. 
الاتحاد البلدي يعرف واقعه الجغرافي ومواسمه التجارية والسياحية وحجم النفايات وتركيبتها، ويستطيع أن يصمّم منشآت على القياس بدل مشاريع عملاقة تُعلّق لسنوات. لكن اللامركزية تحتاج ظهرًا ماليًا وقانونيًا، وإلّا تحوّلت البلديات إلى متّهم دائم من دون صلاحيات".