بين رطوبة "المشّاط" وخطر الحقول، يفتح مزارعو التبغ موسمهم على أمل قبضٍ سريع يسدّ قسط مدرسة أو دين مازوت. لكنّ المشهد تغيّر هذا العام، حيث يشهد الموسم أسعار شراءٍ رسمية أعلى من السابق، مواعيد استلامٍ مبكرة، وتدابير تخفيفية، يقابلها تلفٌ واسع في البساتين الجنوبية وتكاليف نقل وحصاد تتآكل مع كل غارةٍ أو طريقٍ التفافي طويل. في الخلفية، تبقى "الريجي" اللاعب الحاسم في قطاعٍ يطاول رزق عشرات آلاف العائلات ويشتبك مع سياسات الصحة العامة ومكافحة التهريب في آنٍ معاً.
رفعت إدارة حصر التبغ والتنباك السعرَ المضمون لشراء ورق التبغ في موسم 2025 إلى نطاق يراوح بين 8.5 و10 دولارات للكيلوغرام، خطوةٌ وُصفت حسب مصادر قالت لـ"لبنان24" أنّها محاولةٌ لامتصاص الصدمة المعيشية ورفع قدرة المزارعين على الاستمرار، بالتوازي مع تقديماتٍ عينية (مبيدات، قفازات، منح مدرسية) في بعض القرى. لكنّ أي زيادةٍ سعرية تبقى مهدّدةً بالفقدان
على الطريق بين الحقل والمستودع، وذلك بسبب التكاليف الباهظة جداً، فالمازوت أغلى، وعمالة موسمية أقلّ، ومخاوف أمنية تعني يوماً ضائعاً من القطاف يساوي خسارة موسمٍ كامل.
من الجنوب إلى عكار، أعلنت “الريجي” جداولَ الاستلام على دفعات:
الشمال كان مطلع تشرين الأوّل، والجنوب سارت فيه عمليات الشراء باكراً مع فتح مراكز إضافية تفادياً للاكتظاظ، فيما أُبلغ المزارعون في
البقاع أن التسليم سيكون في منتصف كانون الثاني 2026، وهو فارقٌ زمنيٌّ حساس لعائلات تعيش على السيولة اليومية، خاصة وأنّ الحربَ قصفت أرقام الإنتاج قبل أن تقصف البيوت. تقديراتٌ ميدانية تشير إلى أن إنتاج الجنوب الذي كان يدور قبل الحرب حول خمسة ملايين كيلوغرام تراجع هذا العام إلى ما يقارب النصف، مع حقولٍ غير محصودة، وطرقاتٍ مقطوعة، ومخلّفاتٍ غير منفجرة تجعل كل خطوةٍ بين "الطَبلات" مخاطرة. لهذا جاء تسريع الاستلام والتشديد على إجراءات السلامة في الساحات، لكنّ ذلك لا يمحو خسائر موسمٍ واحد تكفي لاقتلاع عائلةٍ من رزقها.
وراء الأرقام وجوهٌ كثيرة. تقدّر دراساتٌ أكاديمية أن نحو 25 ألف مزارعٍ وعائلةٍ يرتبطون مباشرةً بسلسلة قيمة التبغ في نحو 458 قرية، في نظامِ تراخيص يحدّد المساحات والكميات ويفتح على نزاعاتٍ اجتماعية حين تتداخل السياسة بالرزق. وفي الأثناء، تظهر قضايا فردية على السطح، كسحب رخصٍ من مزارعين أو اتهامات بالرشاوى، لتكشف هشاشة الحوكمة في قطاعٍ تحصر فيه الدولةُ الاستيراد والتصنيع والتسويق عبر "الريجي". هذه الوقائع لا تختزل المشهد لكنها تذكّر بأنّ كل موسمٍ جيّدٍ قد تُربكه إدارةٌ سيّئة أو قرارٌ تعسّفي.
في المقابل، تُحاول "الريجي" إدارةَ موسمٍ تحت النار بأدواتٍ مالية ولوجستية. العام الماضي أقرّت دفعاتٍ مسبقة بقيمة 2.5 دولار للكيلوغرام لمزارعي الجنوب ثم البقاع الذين تعذّر عليهم التسليم بسبب الظروف، وهو مسارٌ استثنائي في تقاليد المؤسسة، أعاد بعض الأوكسيجين للسيولة العائلية، من دون أن يحلّ معضلةَ التكاليف المتصاعدة. هذا الموسم، تستكمل الإدارة تجاربَ تنويع الأصناف مثل "فيرجيني" و"بيرلي" لتحسين الجودة والعائد على المدى المتوسط، وهي تجربةٌ زراعية قد تساعد جزئياً في مناطق البقاع والشمال.
لكنّ معركة التبغ ليست زراعيةً فقط.
لبنان بين أعلى دول العالم في استهلاك السجائر والـ“النرجيلة”، فيما الضرائب على التبغ تبقى أدنى بكثير من توصيات
منظمة الصحة العالمية.
وزارة الصحة وشركاؤها يدفعون باتجاه سياساتِ خفض الطلب والكلفة الصحية، في حين لا يملك المزارع بدائل جاهزةً تُطعم العائلة فوراً. هذا التناقض بين "اقتصاد الصمود" في الريف وسياسات الصحة العامة في المدن يحتاج إلى جسورٍ واقعية: حماية الدخل الريفي، وتنظيم العمل والسلامة، بالتوازي مع ضبط التهريب وتشديد الضرائب الذكية على الاستهلاك لا على الإنتاج الأولي.
على الأرض، “القصة” أبسط وأقسى.. أمٌّ تراقب ليالي التجفيف خشية رطوبةٍ تطيح بجودة الورق، شابٌّ يوازن بين اليوميات والجامعة منتظراً قبض "الريجي"، وسائقٌ يطوي مسافةً أطول لتجنّب القصف فتتضاعف كلفة النقلة. في مثل هذا الواقع، تصبح الإجراءات الصغيرة، من جدول استلامٍ واضح، ونقطةِ شراءٍ أقرب، ودفعةٍ مسبقةٍ أدقّ استهدافاً، فرقاً بين موسمٍ ناجٍ وآخر خاسر.
ما الذي يمكن فعله الآن؟ المصادر، قالت لـ"لبنان24" أنّه أوّلاً، لا بدّ من تثبيت سعر الشراء المعلن ومراجعته سريعاً إذا استمرت كلفة النقل والعمالة بالارتفاع، مع التزامٍ بمهلة دفعٍ قصيرة لا تتجاوز أسابيع من التسليم. ثانياً، توسيعُ برامج السلامة المهنية في الحقول (معدات وقاية، إرشاد حول المبيدات، خرائط مخاطر للمخلّفات الحربية)، بالشراكة مع البلديات والاتحادات. ثالثاً، كبحُ التهريب بجدية لأنّه يضغط على القدرة التسويقية الرسمية ويُفقد الدولة والمزارع معاً جزءاً من العائد. ورابعاً، تطويرُ مسارٍ طوعيّ لتجربة محاصيل بديلة في البقاع والشمال حيث تسمح الظروف، على أن يكون انتقالاً تدريجياً لا صدمةً جديدة.