كتب طوني عيسى في" الجمهورية":ستنتقل
سوريا بسرعة البرق إلى المقلب الأميركي. وفي الحقيقة، يجب إجراء مقارنة بين سوريا
الأسد وسوريا
الشرع في تموضعها الدولي: كان الأسد يضع سوريا في خط موسكو وحلف وارسو، لكنه يراعي مصالح
واشنطن والغرب، فجاء الشرع ليقلب الصورة تماماً: يضع سوريا في خط الأطلسي وواشنطن، لكنه يراعي مصالح موسكو والصين. وهذا الانقلاب لم يكن ليحدث لولا إقدام "حماس" على عملية "طوفان الأقصى" في غزة، وما تلاها منضربات ل "
حزب الله" في
لبنان، ثم سقوط الأسد.
في الحقيقة، يتصرّف لبنان اليوم، وتحديداً "حزب الله"، وكأنّ الحرب لم تقع، والانقلاب الإقليمي لم يحصل، والأسد متوَّج في دمشق وإسرائيل خائفة من "الكاتيوشا"، فيما طهران تتمدّد شرقاً وغرباً وبحر سلاح والمال يتدفق من طهران على ضفاف المتوسط. وإذا كانت الصدمة التي تلقّاها الحزب في حرب 2024 لم توقظه، فالخطر كبير في السقوط في التجربة مرّة أخرى، أو أخيرة.والأهم هو أن يفكّر اللبنانيون عميقاً في ما يعنيه التحول الكبير لسوريا، وما سيقود إليه في لبنان.
سيكون لبنان أول المتأثرين بالتطبيع، بسبب موقعه الجغرافي وسلاح "حزب الله" والعلاقات المتشابكة مع سوريا. وستجد دمشق أنّ من مصلحتها التعاون في ملف إضعاف "حزب الله"، إذا رأت فيه فرصة لتعزيز شرعيّتها الدولية وتخفيف الضغوط عليها. وفي عبارة أخرى، ستحصل
إسرائيل على "غطاء" سوري، وربما دولي، للضغط على "حزب الله" داخل لبنان. وما يُثير القلق هو أنّ دمشق تتحكّم بعدد من الأوراق الحيَوية في لبنان. فهي لم تقل كلمتها الحاسمة في مسألة مزارع شبعا، ولم ترَ حاجة حتى الآن إلى ترسيم الحدود البرية المتنازع عليها. وفي ظل أي اتفاق تطبيع، قد تحاول سوريا فرض رؤيتها لترسيم هذه الحدود، مستفيدة من موقعها ك "شريك" جديد لإسرائيل والمجتمع الدولي. وهو ما سيضع لبنان في موقف تفاوضي ضعيف. وكذلك هي حال الحدود البحرية وتقاسم موارد الغاز. فقد تحاول سوريا استغلال وضعها الجديد للمطالبة بحقوق أكبر في مناطق متنازع عليها مع لبنان، ما يؤثر على حصة لبنان. وفوق ذلك، تبقى الورقة
السورية الضاغطة هي وجود نحو مليونَي نازح سوري في لبنان. وهي تمثل عبئاً ديموغرافياً واقتصادياً واجتماعياً هائلاً. وبدلاً من تسهيل عودة النازحين في شكل طوعي وآمن، قد تستخدم دمشق هذا الملف ورقة ضغط على لبنان، أو شرطاً مسبقاً لأي "تعاونأمني" على الحدود.
إذا اتُفِقَ على أن تتولّى سوريا، بضوء أخضر إسرائيلي - دولي، مهمّة "ضبط" "حزب الله" على الحدود، فهذا يعني ضمناً عدم الثقة بقدرة الدولة
اللبنانية على بسط سيادتها. وهو ما يقوّض مفهوم الدولة القوية. وإذ يسعى لبنان إلى الحفاظ على صورته كدولة مستقلة ومحايدة، فإنّ أي اتفاق سيجعله طرفاً غير مباشر في نزاع إقليمي، أو يضعه تحت "وصاية أمنية" من أي طرف، ما سيزيد من عزلته.
لذلك، مسؤولية الحكومة اللبنانية هي في الخروج من حال الانتظار بلا أفق، وحل مسألة السلاح لمصلحة الدولة، وفي أقرب ما يمكن، لئلّا تفاجئها التحوّلات من الجنوب والشرق والشمال. وعليها أن تستغل الدعم الأميركي والدولي والعربي الحالي، لتطلب ضمانات دولية وعربية بعدم حصول أي تدخّل عسكري أو أمني في لبنان، وعدم تغيير الحدود البرية أو البحرية، ودعم الجيش اللبناني والقوى الأمنية لتمكينها من بسط سلطتها على كل الأراضي اللبنانية. وأمّا مشكلة النازحين، فتستلزم ضمانات دولية بوضع خطة واضحة ومسار زمني لعودتهم إلى بلادهم، ورفض أي محاولة لربط الملف بقضايا أمنية أو سياسية أو اقتصادية أخرى.
ونتيجة لاتفاق التطبيع، على الأرجح سيتوافق الطرفان السوري والإسرائيلي على إنهاء وجود "حزب الله" الفعّال، في الجنوب والبقاع، ليتقلّص نفوذه فيقتصر على الضاحية الجنوبية لبيروت. وهذا الوضع سيضعه أمام خيارَين: إمّا أن يُسلّم سلاحه إلى الدولة ويتحوّل قوة سياسية، وهو ما يتعارض مع عقيدته كقوة مقاومة مسلحة. وإمّا الرفض والقتال في دائرة 360 درجة: إسرائيل من الجنوب، وسوريا من
الشمال والشرق، فيما هو يخاصم عدداً من القوى في الداخل. وكل من الخيارَين يحمل فيطيّاته تحدّيات وجودية كبيرة ل "الحزب". ولذلك، إنّ القرارات التي سيتخذها في الفترة المقبلة لن تحدّد مستقبله فحسب، بل مستقبل لبنان والمنطقة بكاملها.