تحرَك المشهد السياسي في لبنان في الأيام الأخيرة تحت طبقات متداخلة من الضغط الخارجي والتأويل الداخلي. ومع تشدّد التدخل الأميركي في ملفات مرتبطة بالسلاح والتمويل والحدود، لجأ بعض المنابر إلى استثمار هذا المناخ لتضخيم أي تمايز داخل القوى الحليفة وتصويره كتحوّل جذري في التحالفات. لكن خلف الضجيج الإعلامي، ثمّة معطيات مختلفة تماماً تكشفها مجالس الكواليس السياسية، حيث لا تبدو الأولويات المحلية منفصلة عن السياق الإقليمي والدولي، ولا الخلافات المفترضة سوى أدوات في معركة نفوذ أكبر من تفاصيل البيانات والتصريحات.
ضمن هذا السياق، جرى التداول بأن
رئيس مجلس النواب نبيه بري أبدى استياءً من الصياغة الأخيرة لبيان "
حزب الله"، وأنّه وجّه عبر إحدى الشخصيات البارزة في "الحزب" رسالة عتب حول طريقة إخراج الموقف. ومن هُنا، سارعت بعض المنابر إلى استغلال هذه الإشارة للحديث عن شرخ في التحالف الممتدّ بين الجانبين، محاولةً تصوير الأمر كتحوّل سياسي لا مجرّد ملاحظة على الأسلوب.لكنّ ما يتسرّب من النقاشات المغلقة، وفق مصادر مطّلعة، يعكس واقعاً مغايراً تماماً، إذ إنّ المسألة لا تتجاوز اختلافاً في المقاربة، لا في الخيارات أو الاتجاهات. وبحسب المصادر، فإن ثوابت
بري لم تتغيّر، لا في رفض التطبيع مع
إسرائيل ولا في رفض تقديم تنازلات تحت الضغط، وهو ما جدّد التأكيد عليه حين رفض أي اتفاق أو مسار يُتيح للاحتلال تحقيق مكاسب سياسية أو أمنيّة تحت وطأة
الغارات والتهويل.
وفي موازاة هذا
النقاش الداخلي، كانت
واشنطن ترفع مستوى الضغط. فزيارة وفد الخزانة الأميركية حملت مطالب محدّدة تتلخّص بانتقال ملف سلاح "حزب الله" من خانة النقاش السياسي إلى خانة التنفيذ. ووفق مصادر متابعة، شدّد الوفد على ثلاثة عناصر مترابطة: فرض قيود على أي مصدر تمويلي مرتبط بالحزب، تشديد الرقابة على الحدود
اللبنانية –
السورية، ووضع القرض الحسن ضمن دائرة الاستهداف المباشر. والأهم أنّ الوفد عبّر بوضوح عن عدم رضى واشنطن عن أداء الجيش في هذا الملف، ولا عن طريقة تعامل الحكومة، ملوّحاً بأن استمرار الواقع كما هو سيجعل لبنان يواجه مصيره وحده، بلا غطاء سياسي أو مالي.
أما على المستوى الميداني، فيستمرّ العدو
الإسرائيلي في التصعيد عبر الغارات والاغتيالات في الجنوب، وهو ما استغلّته بعض المنصّات لتقديم رواية مفادها أنّ هذه العمليات تأتي ردّاً على الموقف اللبناني الذي نُقل عبر الوسيط المصري. غير أنّ المعلومات المتداولة بين الدوائر المعنية بالاتصالات تشير إلى عكس ذلك؛ فلبنان سلّم موقفه، والجانب المصري نقله كما هو، بينما إسرائيل ما زالت تدرس الردّ ولم تقدّم موقفاً نهائياً بعد. بمعنى آخر، فإنّ التصعيد الجاري ليس نتيجة قرار لبناني، بل جزء من محاولة فرض معادلة ضغط قبل أي جواب رسمي، ومراكمة أوراق قوة قبل الدخول في أي مسار تفاوضي.
بالنتيجة، من الواضح أن واشنطن لا تبحث عن تسوية، بل عن انتزاع أوراق القوّة من الداخل قبل أي تفاوض. فالرهان هو على تفكيك ما لم تنجح الغارات والضغوط الاقتصادية في كسره،اي شبكة الثقة بين القوى التي تمتلك أوراق القوّة في لبنان. لكن المصادر تؤكّد أن العلاقة بين الرئيس بري و"حزب الله" لم تُبنَ على اللحظة ولا على المزاج، بل على فهم مشترك لموقع لبنان في معادلة الصراع. لذلك يبقى التمايز في الأسلوب تفصيلاً، بينما يبقى الثابت أنّ لا تفاوض تحت النار، ولا مكاسب للاحتلال من باب اختلاف وجهات النظر بين الحلفاء.