يبدو أن السجال حول موقع
لبنان في خريطة الصراع القائم على حدوده تجاوز إطار التباينات التقليدية، ليتغذّى من خطاب خارجي يتعامل مع الدولة ومؤسساتها كأوراق في لعبة ضغط مفتوحة. إذ برزت في الأيام الأخيرة ملامح تقاطع بين حملة داخلية تستهدف رئيس الجمهورية جوزاف عون وقائد الجيش رودولف هيكل، وبين تصعيد في لغة دوائر أميركية متشددة تتعامل مع الرئاسة والجيش كعناصر قابلة لإعادة التشكيل داخل صفقة إقليمية لا كدعامة أساسية لدولة تحاول حماية ما تبقّى من سيادتها تحت تهديد وعدوان مستمرين على الحدود.
وفق مصادر سياسية مطلعة فإنّ هذا المناخ لا يمكن فصله عن محاولة متجددة لفرض معادلة سياسية وأمنية على لبنان تحت شعار إعادة بناء الثقة مع
الولايات المتحدة الأميركية، حيث يتمّ التعامل مع هذا الشعار كغطاء لمسار أعمق يهدف إلى إنتاج سلطة سياسية وعسكرية لا تقف في وجه تحويل ملف سلاح "
حزب الله" إلى البند الأول في جدول الأولويات الرسمية. وفي هذا الإطار ترى المصادر أنّ بروز شخصيات لبنانية تعتمد لغة لوبيات
واشنطن وتقدّم أي تغيير في المواقع الرسمية بوصفه خطوة تقنية لتحسين العلاقة مع الخارج، يشكّل عملياً جزءًا من مشروع أوسع لإعادة تركيب ميزان القوى داخل الدولة بما يضمن انسجام رأس السلطة السياسية والعسكرية مع المسار الذي ترسمه العواصم المعنية.
ضمن هذا الإطار تقرأ المصادر تصريحات مدير التحالف الأميركي الشرق أوسطي للديمقراطية توم حرب باعتبارها النموذج الأكثر فجاجة لهذه المقاربة. فبدل التوقّف عند مضمون الموقف الذي عبّر عنه الرئيس جوزاف عون في خطابه الأخير في الجنوب عشية عيد الاستقلال، جرى التعاطي مع الكلمة على اعتبارها لا تلبّي المواصفات المطلوبة أميركياً لأنها لم تُبنَ على أساس الشروط المسبقة. وقد سارع حرب إلى تصوير خطاب الرئيس على أنه مجرّد كلام "للاستهلاك المحلي" ولا يرتقي إلى مستوى طرح "خارطة طريق" في مقاربة ترى فيها المصادر محاولة لوضع سقف سياسي للرئاسة انطلاقاً من واشنطن لا من الواقع اللبناني. وتضيف المصادر أنّ إصرار حرب على محاكمة مضمون الخطاب الرئاسي تحت عنوان غياب ما يسميه بخارطة الطريق، يعكس محاولة لوضع الرئاسة تحت وصاية سياسية غير معلنة. وتلفت المصادر إلى أنّ هذه الذهنية تتعامل مع أي موقف يصدر عن رئيس الجمهورية على أساس معيار واحد هو مدى انسجامه مع أجندة الإدارة الأميركية، بحيث يتحوّل أي خيار مختلف إلى مادة للضغط السياسي والإعلامي بدل التعامل معه كموقف سيادي لرئيس يحدّد من
بيروت أولويات دولته وحدود علاقته بالخارج.
ولا تقف المسألة عند حدود الخطاب بل تمتد إلى جوهر وظيفة الدولة والجيش. فحرب ربط صراحة بين مستقبل المساعدات الأميركية للمؤسسة العسكرية وبين مصير قائد الجيش رودولف هيكل، معتبراً أنّ استقالته تفتح الباب أمام دعم أكبر وأنّ بقاءه يهدد استمرار هذا الدعم. وبحسب المصادر، يشكل هذا الربط اعترافاً صريحاً بأن جزءًا أساسياً من المقاربة الأميركية يقوم على استخدام سلاح التمويل للتحكم باتجاهات القيادة العسكرية، وأنّ الهدف النهائي لا يقتصر على دعم جيش قوي مستقل بل يتعدّاه إلى إنتاج قيادة أكثر قابلية للتكيّف مع مشروع يضع المؤسسة في موقع اشتباك سياسي داخلي. ويتكامل مع ذلك، وفق المصادر نفسها، ما يُنقل عن دوائر في الكونغرس والإدارة من أسئلة مباشرة حول ما إذا كان قائد الجيش مستعداً لخوض المواجهة في اتجاه "حزب الله" أو في اتجاه
إسرائيل، بما يحوّل النقاش من سؤال عن استراتيجية دفاع وطني إلى اختبار لمدى جاهزية الجيش للانخراط في أجندة خارجية.
الأخطر في ما أورده حرب، وفق المصادر، يتصل بالعروض غير المسبوقة التي تحدّث عنها لتطبيق القرارات الدولية. فالكلام عن الاستعانة بنحو خمسة عشر ألف عنصر من قوات حفظ السلام وسفن حربية قبالة بيروت إذا تعذّر على الجيش نزع سلاح "حزب الله" في مناطق محددة، يفتح باباً واسعاً للسؤال عن نوايا الجهة التي تدفع نحو توسيع مهمة هذه القوات وتحويلها من قوة مراقبة على خطوط التماس إلى لاعب مباشر في صراع داخلي محتمل. ذلك أنّ أي محاولة لجرّ قوات حفظ السلام إلى مواجهة مع مكوّن لبناني أساسي تعني الانتقال من منطق مراقبة وقف الأعمال العدائية إلى منطق إدارة مواجهة سياسية وأمنية مع "الحزب" تحت شعار تنفيذ القرارات الدولية، لا حماية المدنيين أو تثبيت الاستقرار على الحدود.
وفي موازاة هذا المسار، تلحظ المصادر حملة داخلية تبدو منسّقة بوضوح، تستهدف رئيس الجمهورية وقائد الجيش وتستثمر في تصريحات حرب لتكثيف الضغط من الداخل. فمن جهة، يُصار إلى التشكيك في قدرة الرئاسة على إدارة ملف السلاح والحدود والتعامل مع إسرائيل والقرارات الدولية، ومن جهة أخرى تُقدَّم قيادة الجيش كأنها عائق أمام المساعدات والانفتاح الأميركي. وتؤكد المصادر أنّ الهدف لا يتعلّق فقط بضرب موقعَي الرئاسة والقيادة العسكرية، بل يتعدّاه إلى تكريس مناخ عام يروّج لفكرة أن الخروج من الأزمة يمر حتماً عبر إعادة تشكيل رأس الدولة وقيادة المؤسسة العسكرية بما يلبّي شروط العواصم الخارجية، في مسار يفرّغ المؤسسات الدستورية
اللبنانية من دورها ويحوّلها إلى مجرّد واجهة لقرارات تُصاغ خارج البلاد.
في خلفية هذا الخطاب أيضاً، ترى المصادر أن ثمة إعادة إنتاج لرواية تستهدف بيئة "حزب الله" ككل. إذ يقدّم حرب الطائفة الشيعية في لبنان على أساس أنّ مشروعها كان قائماً على بناء كيان سياسي موازٍ للدولة وأن هذا المشروع انهار بالكامل، ويعرض السلاح على اعتباره أداة صراع داخلي لا صلة له بأي وظيفة ردعية. وتلف المصادر الى أنّ هذا التوصيف يهدف عملياً إلى نزع الشرعية عن السلاح في مواجهة الاعتداءات
الإسرائيلية وتحويله إلى ملف أمني داخلي صرف، تمهيداً لتبرير خطوات تطويق سياسي وعقوبات وضغوط إضافية على البيئة التي تحتضنه. كما ينسجم هذا المنطق مع خط سياسي داخلي دأب منذ سنوات على تصوير الخطر الأول على لبنان على أنه سلاح "حزب الله"، بينما يتعامل مع الاحتلال والتهديد
الإسرائيلي المزمن كعامل ثانوي في معادلة الأمن الوطني.
أمام هذا المشهد لا تبدو تصريحات توم حرب مجرّد موقف شخصي، بل خلاصة لطريقة تفكير جزء من المنظومة الأميركية في مقاربتها للبنان. ووفق هذا المنطق، يتحوّل البلد من دولة لها رئيس وجيش ومؤسسات إلى ملف قابل للإدارة عبر التصريحات والضغط المالي وتهديد المساعدات وفرض تبديل الوجوه كلما اقتضت المواجهة. ويجري التعامل مع رئاسة الجمهورية كمنصب مطلوب منه تقديم إثبات دائم لحسن السلوك أمام الخارج، ومع قيادة الجيش كأداة لتنفيذ سياسات ترسمها عواصم أخرى لا كعمود فقري لأي سياسة دفاعية لبنانية. وكل محاولة للابتعاد عن هذه القاعدة، سواء عبر خطاب سيادي أو تمسّك باستقلالية القرار، تُواجَه بحملات منظّمة من التشويه والتشكيك في الداخل والخارج معاً، في رسالة واضحة مفادها أنّ المطلوب ليس دولة قوية بل سلطة منضبطة بشروط اللعبة المفروضة عليها.
في الخلاصة يكشف الجدل حول تصريحات حرب أنّ المعادلة المطروحة للبنان باتت أكثر وضوحاً، إنقاذ مشروط بتغيير رأس الدولة وقيادة الجيش وإعادة ضبط دور المؤسسة العسكرية بما ينسجم مع ضغوط الخارج، وبحزمة مساعدات تُربط عملياً بتفكيك عناصر القوة المرتبطة بسلاح حزب الله.
وبحسب مصادر مطلعة، لا يقدّم هذا الطرح مشروعاً لتعزيز الدولة بل صيغة محدثة لوصاية سياسية تستخدم التمويل وأوراق الدعم الدولي كأدوات ضغط إضافية. وفي هذا السياق، لا يقف السؤال أمام لبنان عند حدود الاصطفاف بين محاور متقابلة، بل عند خيار أبسط وأكثر مباشرة بين قبول التعامل معه كساحة تُدار وفق جداول عمل خارجية أو الإصرار على الحد الأدنى من موقع دولة ترفض تحويل استقرارها الداخلي إلى ورقة تفاوض دائمة.