لا يزال اغتيال القائد العسكري في "
حزب الله" هيثم علي الطبطبائي في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت محور الاهتمام على الساحة المحلية والإقليمية، في ظلّ سباق "محموم" بين خيار توسيع الحرب الذي يبدو أنّ
إسرائيل ماضية باتجاهه، بدليل حديث رئيس الأركان إيال زامير عن احتمال العودة إلى "ساحات سابقة"، في إشارة إلى
لبنان وإيران، وبين خيار الدبلوماسية الذي يُعتقد أنّ الضربة الأخيرة أفقدته الكثير من زخمه، إن وُجِد بطبيعة الحال.
عمليًا، جاءت عملية اغتيال الطبطبائي التي وُصِفت إسرائيليًا بـ"الإنجاز الاستراتيجي"، فيما كان مسار التسويات في الجنوب يحاول أن يلتقط أنفاسه، بين مبادرة الرئيس جوزاف عون الداخلية، وتأكيده استعداد لبنان للتفاوض مع إسرائيل حول النقاط المتنازَع عليها، كما جرى في ملف ترسيم الحدود البحرية، إلى حراك الخماسية العربية والدولية، مرورًا بالمقاربة المصرية الجديدة "خطوة بخطوة" لتثبيت القرار 1701 على نحو دائم.
بهذا المعنى، يبدو السؤال حول ما إذا كان "حزب الله" سيردّ، وكيف، وما إذا كان سيردّ بشكل "محدود" بما لا يقدّم لإسرائيل "ذريعة لا تحتاجها" لشنّ الحرب، أقل مركزية من سؤال آخر أعمق: هل أبقت إسرائيل أصلًا شيئًا من هذا المسار يمكن إنقاذه، أم أنّ ضربة الضاحية كانت إعلانًا عمليًا عن نهاية مرحلة المساومات، وبداية مرحلة جديدة من "إدارة الصراع" بالنار لا بالدبلوماسية، بصرف النظر عن تموضع الحزب في معادلة الردّ من عدمه؟
دبلوماسية "معلّقة" على قرار الحرب
صحيح أنّ التصعيد
الإسرائيلي في جنوب لبنان أخذ مسارًا متدرّجًا خلال الأسابيع الماضية، خصوصًا بعد وقف إطلاق النار في قطاع غزة، إلا أنّ الصورة كانت مختلفة تمامًا خلف الكواليس. وتشير المعطيات في هذا السياق إلى أنّ الحراك الدبلوماسي بلغ خلال الفترة الأخيرة مرحلة متقدّمة، ولو أنّها بقيت "على الورق"، إن صحّ التعبير، ولم تترجَم على الأرض، خصوصًا بعد دخول القاهرة والدوحة على الخط، بعد التجربة "المشجّعة" في قطاع غزة.
ويقول العارفون إنّ أفكارًا جدية طُرِحت بين الوسطاء، وكان يفترض أن تسلك طريق التنفيذ، من بينها مقاربة "الخطوة بخطوة" التي طرحتها القاهرة لتطبيق القرار 1701، انطلاقًا من ترتيبات أمنية في الجنوب وصولاً إلى صيغة أمنية شاملة، تجنّب البلد عدوانًا إسرائيليًا بات يتعامل البعض معه وكأنّه "حتميّ". وإلى جانب القاهرة، حضرت الدوحة، عبر محاولاتٍ حثيثة لإعادة تفعيل اللجنة "الخماسية"، وإحياء مسار التسوية بعد ركود طويل.
وقد ترافق كلّ ذلك مع انفتاح لبنانيّ على الحلول والمخارج، ترجمه رئيس الجمهورية جوزاف عون من خلال "مبادرة التفاوض" التي أطلقها، وكرّرها في أكثر من مناسبة، آخرها قبل ساعات فقط من العملية
الإسرائيلية المباغتة في الضاحية، وهي مبادرة أوحى المسؤولون بأنّ "حزب الله" لن يكون معارضًا لها، رغم موقفه "المتحفّظ" في الكتاب المفتوح، ولا سيما أنّ الحزب لا يبدو قادرًا على الدخول في معركة واسعة، وإلا لما سكت عن كلّ تلك الانتهاكات طيلة عام كامل.
المسار الإسرائيلي.. رفع سقف وتصعيد
بالتوازي مع الحراك الدبلوماسي الذي نشط في الأسابيع الأخيرة، كانت إسرائيل ترسم على الأرض وقائع من نوع آخر، بل "تردّ بالنار" على المبادرات والوساطات في موقف فُسّر "سلبيًا" منها، حتى إن تقارير إسرائيلية ذهبت حدّ التفاخر بأنّ الجيش يتصرّف في جنوب لبنان "كما لو أنه الضفة الغربية"، مع رصد انتهاكات بالجملة لاتفاق وقف إطلاق النار باتت تمرّ، كما هي الحال في الضفة، بوصفها "أمرًا واقعًا"بكلّ بساطة.
في هذا السياق، يصبح اغتيال الطبطبائي حلقة في "منهج"، خصوصًا في ضوء ما سُرّب إسرائيليًا أيضًا عن "ضوء أخضر" أميركي مُنِح لتل أبيب، أو ما سُمّي بـ"إطلاق يدها في لبنان"، وذلك مقابل الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة، وذلك انطلاقًا من قناعة يبدو أنّ
الأميركيين باتوا يشاركون الإسرائيليين فيها، ومفادها بأن نزع سلاح "حزب الله" لن يتحقق عبر الدبلوماسية، ولا من خلال الدولة
اللبنانية وقنواتها الرسمية، بل عبر مراكمة الضربات.
هكذا، يجد الوسط السياسي اللبناني نفسه أمام مفارقة، فعلى الطاولة، مبادرات ومقترحات وخرائط طريق، من الخماسية إلى القاهرة وباريس، ولكن في الميدان، مسار مختلف تمامًا، يُدار من تل أبيب، عنوانه الحقيقي "توسيع هامش العمل العسكري تحت سقف وقف النار"، وليس الاستثمار في هذا الوقف لبلورة تسوية دائمة. وهنا يستغرب الكثيرون المقاربة الغربية الرائجة منذ ضربة الضاحية، والتي تعتبر التصعيد "رهنًا" بردّ "حزب الله"، في حين أنّ الاغتيال هو التصعيد بحدّ ذاته، بل بمثابة "إعلان حرب".
خلافًا لكلّ ما يتمّ الترويج، قد لا يكون الجواب الحقيقي عن سؤال "الحرب أم التسوية؟" رهنًا بردّ لم يلوّح به الحزب بعد على اغتيال مسؤوله العسكري، فالواقع يبدو أعقد من ذلك بكثير، بل إنّ هناك من يقول إنّ مسار التسويات دخل عمليًا مرحلة "الإنعاش"، وإنّ الضربة الأخيرة لم تفعل سوى كشف التناقض العميق بين خطاب دبلوماسي يتحدث عن إعادة الاعتبار للقرار 1701، وبين ممارسة ميدانية تتعامل مع الجنوب "كأنه الضفة الغربية"، وتحتفي بتحويل الاغتيال إلى أداة إدارة يومية للصراع!