Advertisement

لبنان

"لبنان اعجوبة"...هذا ما أثمرته زيارة البابا لقديس لبنان

اندريه قصاص Andre Kassas

|
Lebanon 24
03-12-2025 | 02:00
A-
A+
Doc-P-1450214-639003470252934141.jpeg
Doc-P-1450214-639003470252934141.jpeg photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
سبعون ساعة عاشها لبنان مع ضيفه الحبري كأنها حلم تمنّى اللبنانيون الاّ ينتهي. سبعون ساعة من الأمل المفقود مرّت كغامة لتعود الحياة إلى رتابتها مع ما فيها من مآسٍ أنسانا إياه قداسة البابا لاوون الرابع عشر، الذي عيّشنا أعادنا إلى ما افتقدناه على مدى سنين طويلة. في هذه الساعات القليلة غابت المسيرات الإسرائيلية عن سمائنا. تلاقى أهل السياسة ودارت بينهم أحاديث جانبية لم تكن لتتحقّق لولا وجود هذا البابا الأبيض، رسول السلام والمحبة.
Advertisement
فزيارة الحبر الأعظم للبنان اختصرت المسافات بين ماضٍ جميل وحاضر مجبول بالهموم. ففي كل محطة من محطاته ترك قداسة البابا بصمة ايمانية. ولكن زيارته لضريح القديس شربل في دير مار مارون عنايا كانت الأكثر وقعًا، إذ تحّول هذا المقام الديني إلى معلم عالمي، ينضم إلى المقامات والمزارات الدينية في كل أنحاء العالم. وبهذه اللفتة البابوية أصبح هذا الدير، الذي عاش فيه القديس شربل، ومنه انتقل إلى المحبسة ليكرّس ذاته للعبادة والصلاة والتأمل، محجة تبرّك للقريبين والبعيدين، خصوصًا أن شفاعات هذا القديس لدى خالق البرايا قد تخطّت الحدود الجغرافية.
فالبابا لاوون، رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، دخل إلى دير مار مارون مصليًا ومتأملاً، وحاملًا هموم العالم وهموم لبنان، ليقول للعالم أن القداسة عمل يومي واجب على كل مؤمن، وأن الرجاء مسار حياة يومية.
وبهذه الزيارة - الرمز، لم يُضِف الحبر الأعظم قيمة على دير مار مارون فحسب، بل استعاد أمام أنظار العالم تلك اللحظة التي يُصبح فيها الصمت لغة، والخشوع صلاة، والوقوف أمام ضريح ناسك لبنان فعل إيمان يتجاوز الطوائف والحدود. عند أعتاب ضريح شربل، بدا البابا وكأنه يقف أمام سرّ الله المتجلّي في إنسان اختار العزلة ليكون أكثر حضورًا في حياة البشر.
هناك، بين حجارة الدير العتيقة ورائحة البخور المتصاعدة، والتراتيل السريانية صار المشهد رسالة بحدّ ذاته. فالقداسة ليست شأنًا استثنائيًا لأشخاص مُصطفَين، بل هي مسار يبدأ بخطوة توبة واحدة، ويتغذّى كل يوم بعمل خير، بكلمة محبة، بقبول المختلف، وبصلاة تتحدى الضجيج.
ولبنان، الذي يرزح تحت أثقال الانقسام والقلق والضياع، بدا في تلك اللحظة كأنه يستعيد معنى وجوده. وطنٌ صغير يحرسه قديس كبير، وشعبٌ جريح ينهض كل مرة ببركة سماء لا تبخل عليه بالعجائب.
لقد أراد البابا لاوون الرابع عشر أن يقول من عنايا إن في لبنان، على رغم كل محنه، شعلة لا تنطفئ. وإن في قلب هذا الجبل صوتًا يواصل الهمس بأن الله لا يترك أرضًا يتنفس فيها القديسون. وإن رجاء اللبنانيين، مهما خاب، له سند في صمت رجل عاش بعيدًا عن العالم ليصير أقرب إلى كل إنسان في العالم.
ومن عنايا، وصلت الرسالة. تخطّت جدران الدير. خرجت منه دعوة مفتوحة إلى وجدان كل لبناني لكي يعودوا إلى جذورهم الروحية، إلى ذلك النبع الذي طالما سقى هذا الوطن قوة على الاحتمال، وصبرًا على المحن، وقدرة على النهوض في كل مرة يظن العالم أنه سقط إلى غير رجعة.
فحين ركع قداسة البابا أمام ضريح القديس شربل، ساوى القريب والبعيد، المؤمن والمتكبّر. فهذه الزيارة القصيرة تركت عقيدة راسخة في الوجدان المسيحي بأن القداسة لم تعد حكاية تُروى، بل شهادة تُعاش، وأن الرجاء ليس فكرة شعرية، بل قوة تُعيد ترتيب الفوضى داخل النفوس.
وفيما وقف العالم يتابع هذا المشهد، بدا لبنان وكأنه يسترد شيئًا من مكانته الروحية التي عرف بها عبر التاريخ. لم يكن مجرد ضريح يُزار، بل كان وطنًا يُعاد تقديمه إلى العالم: وطن الرسالة، كما سمّاه البابا القديس يوحنا بولس الثاني، والذي لا يزال على رغم الجراح قادراً على أن يكون مساحة لقاء، ومكانًا يُلهم الآخرين بأن الإيمان يمكنه أن يغيّر وجه الأرض.
ولأن القديس شربل كان مرآة للبساطة التي تُنتج العجائب، أراد البابا لاوون الرابع عشر أن يذكّر اللبنانيين بأن العودة إلى البساطة ليست تراجعًا، بل خروج من العبثية. وأن الإصغاء لصوت الله، وسط ضجيج المواجع، قد يكون السبيل الوحيد لالتقاط خيط الخلاص.
وهكذا، غادر البابا عنايا، لكن آثار الزيارة بقيت معلّقة في أرواح الناس. بقيت كوصيّة غير مكتوبة: بأن لبنان، مهما انحدرت به الأيام، لا يزال قادرًا على أن ينهض إذا ما جمع أبناءه على صلاة صادقة، ونية طيبة، وعمل مشترك يُعيد إلى هذه الأرض ما تستحقه من سلام.
ولعلّ أجمل ما تتركه زيارة البابا لاوون الرابع عشر هو ذاك الإحساس بأن لبنان، على الرغم من جراحه، ما زال يملك ما يدهش العالم: قديسوه الذين يزرعون الضوء في العتمة، وأهله الذين يصرّون على الحياة حتى حين تشتد عليهم الضيقات. ففي عنايا، لم يكن البابا يزور ضريحًا فحسب، بل كان يزور وطنًا بأسره، وطنًا يبحث عن خلاصه بين أيدي الله. وكأن القديس شربل همس له في صمته: “لا تخف على لبنان… فالله الذي رافقني في وحدتي لن يترك أرضًا أحببتها حتى النَفَس الأخير".
وهكذا، تصبح الزيارة علامة تُثبت أن الرجاء ممكن، وأن النور قادر دائمًا على اختراق العتمة، وأن هذا البلد الذي ولد من رحم الرسالة سيبقى، طال الزمن أو قصر، أرضًا يحرسها القديسون وتباركها السماء، مهما تعثّر أهله ومهما كثرت العواصف. ففي لبنان، كما في عنايا، تبدأ العجائب حين ينحني القلب، وتشتعل الحياة من جديد حين يرفع المؤمنون وجوههم نحو الله.
بالأمس زار ممثل المسيح على الأرض ذاك الذي يمثّل لبنان أمام خالق السماوات والأرض. فكان التلاقي بين الأرض والسماء، وكان عرس لبنان بأبهى حلله. وكان الوحي بأن لبنان أعجوبة.
مواضيع ذات صلة
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك
Author

اندريه قصاص Andre Kassas