بعيدًا من بعض سياسات المحاور الداخلية، التي لها ارتباطات خارجية، يتحرّك رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون داخليًا وخارجيًا من منطلقات غير مرتبطة بـ "اجندات" لا تصبّ مراميها في خانة مصلحة جميع اللبنانيين. وهو يحاول بما لديه من صلاحيات، وانسجامًا مع قسمه الدستوري ومع خطاب القسم وما يعلنه من مواقف وطنية في أكثر من مناسبة، وبالأخص في كلمته أمام الحبر الأعظم قداسة البابا لاوون الرابع عشر، أن يقود سفينة الوطن إلى برّ الأمان، على رغم ما يواجهه من ألغام يتطلب السير بينها حكمة وترويًا بعيدًا من التشنجات الغرائزية، التي تتحكّم ببعض التصرفات الظرفية لعدد من المكونات السياسية.
وبغض النظر عن الاختلاف في المقاربات السياسية بين رئيس الجمهورية وعدد من الأفرقاء اللبنانيين نتيجة بعض المغالطات في فهم أبعاد ما تقوم به رئاسة الجمهورية من خطوات انقاذية، فإنه من الطبيعي، وفق بعض القراءات، ألاّ تكون وجهات النظر متطابقة بين من ينظر إلى الأمور من زوايا متعددة وغير محصورة في المكان والزمان المناسبين، وبين بعض الذين لا ينظرون إلاّ من زاوية ما يتناسب مع مشروعهم السياسي، خصوصًا أن لكل فريق من الأفرقاء اللبنانيين وجهة نظر تختلف مقارباتها من حيث ظروفها ومواقعها ومشاريعها و"اجنداتها" ومصالحها مع المقاربات الأخرى حيال قضايا كثيرة، ومن أهمّها الاختلاف في التفسيرات المتناقضة في ما يخصّ "حصرية السلاح" والمفاوضات المباشرة أو غير المباشرة مع
إسرائيل وسوى ذلك من مواضيع داخلية، ومن بينها المصير المجهول للانتخابات النيابية.
ووفق القراءة السياسية لمجمل هذه المواقف المتباعدة والمتنافرة بين فريقي الساحة السياسية فإن رئاسة الجمهورية تسعى إلى التوفيق بين هذه المقاربات من خلال إعادة التوازن إلى مؤسسات الدولة واستعادة ما فقدته من أدوار غيّبتها قوى الأمر الواقع، ولكن من دون أن يعني ذلك محاولة استفزاز أي مكّون من المكونات السياسية إلاّ إذا قرّر أي طرف أن يغرّد خارج سرب الشرعية.
ومع ذلك، فإن المسار الذي اختاره
الرئيس عون ليس سهلًا. فهو يعي جيدًا أن أي محاولة لإعادة ضبط إيقاع الدولة ستصطدم تلقائيًا بشبكات نفوذ مترامية، داخلية وخارجية، اعتادت استثمار الفوضى لتحقيق مكاسب ظرفية. ولذلك، يبدو واضحًا أنه يحاول الفصل بين ما هو مبدئي وما هو تكتيكي، وبين ما يمكن إنجازه الآن وما يجب تأجيله إلى حين اكتمال الظروف. فالرجل يُدرك أن
لبنان لا يحتمل في هذه المرحلة الحساسة مغامرات أو صدامات، وأن أي خطوة غير محسوبة قد تعيد عقارب الساعة السياسية إلى الوراء.
ولعلّ ما يزيد المشهد تعقيدًا هو ذلك الخيط الرفيع بين العمل على تحصين الدولة وبين تجنّب التوتر مع القوى التي تشكّل جزءًا من النسيج السياسي اللبناني، مهما كان الدور الذي تلعبه. فالرئيس يدرك أن بناء الدولة لا يمكن أن يتحقق بالقطيعة، بل بالتراكم الهادئ لمعادلات جديدة، تفرض نفسها من خلال نجاحاتها لا من خلال صبّ الزيت على نارها. وهذه النقطة تحديدًا هي التي يقرأها بعض المراقبين كإشارة إلى أن الرئيس عون لا يريد أن يكون طرفًا في معركة اصطفافات جديدة، بل يريد أن يكون نقطة توازن، في لحظة سياسية تكاد تخرج عن السيطرة.
ومن هنا، تأتي مقاربته للملفات الحسّاسة، وفي مقدمها ملف الجنوب وتطورات "الميكانيزم" والخطوات المواكبة له. فالرئيس لا ينظر إلى هذه التحوّلات من منظور تكتيكي ضيق، بل من زاوية المسار
الطويل الذي تحتاج إليه الدولة لاستعادة كامل دورها على حدودها وفي قرارها الاستراتيجي. وهو مسار يتطلب، وفق أوساط مطلعة، نقاشًا هادئًا مع جميع القوى، من دون فرض إملاءات، ومن دون السماح في الوقت نفسه بإبقاء الوضع القائم على حاله إلى ما لا نهاية.
وعلى هذا الأساس، تتقاطع قراءاته مع ما أعلنه الحبر الأعظم خلال زيارته إلى لبنان، وهي أن الدولة هي وحدها الضامن لوحدة الشعب، وأن قوة الشرعية هي المرجع الوحيد
القادر على منع الانزلاق إلى الفوضى. وقد التقط الرئيس هذا الموقف بوضوح، فجعله جزءًا من رؤيته لإدارة المرحلة المقبلة، بحيث تتحول زيارة البابا إلى محطة سياسية وروحية تفتح أمام لبنان نافذة جديدة من الأمل، لا مجرد حدث بروتوكولي عابر.
وفي الخلاصة، يبدو أن الرئيس عون يخوض معركة صامتة ولكن ثابتة، معركة إعادة الدولة إلى الدولة، معركة قد لا ترضي هذا الفريق أو ذاك، لكنها، في رأي العارفين، هي الوحيدة القادرة على حماية لبنان من السقوط في لعبة المحاور ومن إعادة إنتاج المأزق نفسه كل بضع سنوات. ومع أن الطريق ما زال طويلًا، وأن العراقيل أكثر من القدرة على تعدادها، فإن محاولة ترميم الشرعية تبقى الخيار الوحيد المتاح في بلد تتزاحم على أرضه مشاريع الآخرين أكثر مما تتلاقى فيه مشاريع أبنائه.