ترأس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي الليتورجيا الالهية بمناسبة عيد القديس نقولاوس في كنيسة القديس نيقولاوس في
صيدا، يعاونه راعي ابرشية صيدا ودير القمر للروم الملكيين الكاثوليك المطران
ايلي بشاره حداد ولفيف من كهنة الابرشية، في حضور مطارنة ووزراء ونواب حاليين وسابقين ورؤساء بلديات وفاعليات المدينة وحشد من المؤمنين.
وبعد الانجيل المقدس، القى العبسي عظة جاء فيها : "نقف اليوم أمام مائدة الكلمة لنستمدّ غذاءنا الروحيّ من نصّين مقدّسين يضيئان تفكيرنا في هذه الفترة التي نستعدّ فيها لعيد الميلاد المجيد: رسالة بولس الرسول التي تدعونا إلى السلوك كأبناء للنور، وإنجيل لوقا الذي يكشف لنا عن حرّية المحبّة التي تحرّر الإنسان من عبوديّة الحرف والجمود. وفي هذا اليوم، تضيء سماءنا ذكرى شفيع هذه الكاتدرائيّة، القدّيس نقولاوس، الذي جسّد هذا النور وهذه الحريّة في حياته الرعويّة والخدميّة".
وقال: "في نصّ الرسالة التي تليت على مسامعنا، يرسل إلينا بولس الرسول دعوة قاطعة قائلًا: "أُسلُكُوا كَأَبناءِ ٱلنّور". لا يقدّم القدّيس بولس هذه الدعوة كنصيحة اختياريّة نقوم بها متى شئنا أو استطعنا، بل يأتي بها كتعريف لهويّتنا المسيحيّة الجديدة بعد المعموديّة. فنحن لسنا مجرّد أناس يحاولون أن يكونوا صالحين؛ بل نحن بالأساس قد استنرنا بنور المعرفة الإلهيّة وبالتالي نصير نورًا في الربّ. يُشدّد الرسول على أنّ السلوك كأبناءٍ للنور لا يتطلّب جهدًا خارقاً لإثبات الذات، بل يتطلّب ببساطة السماح للروح
القدس أن يثمر في حياتنا: "فَإِنَّ ثَمَرَ ٱلرّوحِ هُوَ في كُلِّ صَلاحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ". إنّ أعمالنا الصالحة هي الثمر الطبيعي للإيمان الحيّ. هي ليست شروطًا ننال بها الخلاص، بل هي العلامات التي تظهر بعد أن نكون قد نلنا الخلاص بالإيمان. الإيمان يزرع، والروح يسقي، والخير يفيض من تلقاء نفسه".
وتابع: "يُقابل الرسول بين هذا الثمر و"أَعمالِ ٱلظُّلمَةِ ٱلَّتي لا ثَمَرَ لَها". أعمال الظلمة هنا لا تقتصر فقط على الكبائر الواضحة، بل تشمل أيضًا الانغلاق، والكسل الروحيّ، واليأس، والحياة بلا هدف أو من أجل هدف ماديّ بحت. أعمال الظلمة هي كلّ ما يجعلنا غافلين عن دعوتنا الحقيقيّة، أي الشهادة للنور. لهذا نسمع الرسول يصرخ صرخته المدويّة: "استَيقِظ أَيُّها ٱلنّائِمُ وَقُم مِن بَينِ ٱلأَمواتِ، فَيُضيءَ لَكَ ٱلمسيح". الاستيقاظ هنا هو اليقظة أي أن نعيش بكامل وعينا لوجود المسيح النور فينا. سمعنا أيضًا في الرسالة كلام بولس عن الأيّام الشريرة، فيوصينا بضرورة أن "نفتدي الوقت" وأن نسلك "بِحَذَرٍ، لا كَجُهَلاءَ، بَل كَحُكَماءَ." هذا الافتداء للوقت ليس تقتيرًا ماديًّا ولا برنامجًا منظّمًا مليئًا ولا ابتعادًا عن العبث واللهو، بل هو استغلال الوقت للفرص الروحيّة ولفهم ما هي "مَشيئَة ٱلرَّبّ." أن "نفتدي الوقت" يعني أن نُكرّس طاقاتنا، التي قد تُهدَر في السكر أو اللهو الفارغ (كما يذكر الرسول)، للامتلاء بالروح، وتسبيح الرب والإشعاع بنوره. فالنور الحقيقيّ يرافق الفرح الروحيّ المعبّر عنه بالتسبيح، لا بالغفلة والجهل".
وتابع: "ينقلنا الإنجيل مباشرة إلى مواجهة بين النور والحريّة من جهة، وحرفيّة الناموس من جهة أخرى. المرأة المنحنية التي ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة كانت رمزًا لحالة الإنسان المقيّد تحت ثقل الخطيئة. عندما شفاها يسوع وكسر قيودها في يوم السبت، أثار غضب رئيس المجمع الذي كان يرى في تطبيق
القاعدة أمرًا أهمّ من تحرير الإنسان. هنا، ومن جديد، يذكّر يسوع بالميزان الإلهيّ سائلًا الفريسيّين عن كسر قاعدة السبت: "أَما يَحُلُّ كُلُّ واحِدٍ مِنكُم ثَورَهُ أَو حِمارَهُ في ٱلسَّبتِ مِنَ ٱلمِذوَدِ وَيَنطَلِقُ بِهِ فَيَسقيه؟" فكم بالحريّ يجب أن نفعل من أجل خير الإنسان؟ إنّها دعوة جذريّة لنا اليوم: إننا نحن نضع القوانين والأنظمة والطقوس لكي تساعدنا على السلوك في المحبّة، لكن متى أصبحت هذه القواعد حجابًا يفصلنا عن رؤية وجع الإنسان والعمل على تحريره، فإنّها تفقد معناها وتصبح عبادة أوثان وعادات صنميّة خالية من الروح. إنّ المبدأ المسيحي الحاكم هو أنّ مجد الله يكمن في خلاص الإنسان، وأنّ كرامة الإنسان هي الغاية التي يجب أن تخدمها جميع القوانين والأنظمة البشريّة والكنسيّة. فالمسيحيّ الذي يسلك كابن للنور يسعى لمجد الله من خلال البحث عن خير الإنسان، وليس من خلال تطبيق قوائم جافّة من الممنوعات والمسموحات.
وشدد على أنّ "سيرة القدّيس نيقولاوس تجسّد هذا المزيج من نور الإيمان وحريّة الروح. فكلّ أعماله الخيّرة كانت خفيّة، لم يسعَ بها لنيل مديح الناس (السلوك كابن للنور)، وكانت في الوقت ذاته تكسر قواعد التزمّت البشريّ لصالح المحتاجين (تحرير الإنسان). وقد صار بذلك رمزًا للذين يمدّون يد المساعدة للمحتاجين وللذين ينتصرون على من يعيثون شرًّا وفسادًا، وللذين ينتصرون للكنيسة ولأبنائها المستضعفين خصوصًا. بالإضافة إلى ذلك نعلم من سيرة القدّيس نقولّاوس أنّه كان معينَ الأطفال وسابقَ بابا نويل بتوزيع المساعدات والهدايا، بحيث عُرف بقدّيس الرجاء والفرح يتمتّع بشعبيّة كبيرة، شُيّدت على اسمه كنائس كثيرة في الشرق والغرب وتكنّى باسمه كثيرون".
واردف: "ها نحن اليوم نكرّمه، قائمين في كنيسته في مدينتنا صيدا، في كاتدرائيّة القديس نقولّاوس. هذه الكنيسة التي هي استمرار للكاتدرائيّة الأثريّة القديمة هي رمزٌ وعنوان لأبرشيّة صيدا التي لها دور كبير وفاعل في تاريخ كنيستنا الملكيّة بصمودها وتمسّكها بعقيدتها. لقد مررتم بصعوبات وواجهتم تحدّيات بيد أنّ هذه على الرغم من ثقلها في أكثرَ من مجال لم تَفُتَّ عضُدكم ولم تقطع الرجاء الساكنَ فيكم فلبثتم تحملون الشهادة الإنجيليّة فيما بينكم وفيما حولكم فرحين بأن تكونوا ملح الأرض وخميرة العجين ونور العالم على نحو ما صوّرنا السيّد المسيح نفسه. إنّ حضوركم هو حقًّا شهادة حبّ وأخوّة وصداقة وإرادة وقدرة على الانفتاح والتضحية ونبذِ العزل والرفض للقريب المختلف. إنّ النور الإلهي والمجد الذي يفرح به الجميع هو نور المحبّة والوحدة. لهذا، فإنّ هذه الكاتدرائيّة، بعد مسيرة من التلاقي مع الإخوة الأرثوذكس، مدعوّة إلى أن تكون حافزًا قويًّا للعمل المسكونيّ، إلى أن تكون صرخة تقول لنا: إنّ هدفنا الأسمى هو أن يعكس جسدُ المسيح (الكنيسة) النورَ الواحد والروح الواحد، بعيدًا عن قيود التزمّت والانغلاق إنّما بالحقّ والمحبّة كما يقول القدّيس بولس. فكما حرّر المسيح المرأة من انحنائها، يجب أن يتحرّر أبناء الكنيسة من انحنائهم أمام الخلافات البشريّة، وأن يواصلوا العمل والصلاة من أجل وحدتهم الكاملة. وإذ نحن في هذا المكان المقدّس، لا يسعنا إلّا أن نفكّر بغنى مدينة صيدا وعراقتها التاريخيّة وبعيش أبنائها الواحد مع الآخر، المسيحيِّ مع
المسلم، من خلال الجيرة والصداقة والزمالة، حاملين هموم هذه المدينة معًا وساعين يدًا بيد لتطويرها وتنميتها".
وختم العبسي: "أبنائي الأحبّاء، أهنّئكم جميعًا بعيد القدّيس نيقولّاوس وخصوصًا راعي الأبرشيّة المطران
إيلي بشارة شاكرًا إيّاه على ما يقوم به لخدمة أبنائه بغيرة
الراعي الصالح ومحبّته وتفانيه وحكمته. أعايد الذين يحملون اسم شفيع هذه الكنيسة نقولّاوس وأدعوكم جميعًا لنجدّد عهدنا على السلوك كأبناء للنور، حتّى نجعل أعمالنا الصالحة تفيض كـنتيجة طبيعية للإيمان الحيّ فينا، حتّى نجعل المحبّة والرحمة وخير الإنسان هي المقياس الذي نزن به كلّ قانون حياتنا. ولنُبقِ أعيننا شاخصة إلى وحدة أبناء هذه المدينة، فنعملَ على هدم كلّ جدار تقسيم روحيّ أو مذهبي يفصل الإنسان عن أخيه الإنسان. لِيُنِرِ المسيح قلوبنا، ويهدِنا إلى فهم مشيئته، لنكون دائمًا فرحين، وممتلئين من الروح، ومُمجّدين للآب على مثال شفيعنا القدّيس نبقولّاوس. آمين".