لا يختلف اثنان، حتى الذين هم أكثر براغماتية في الضفة المقابلة، على أن الشروط الثلاثة التي وضعها
لبنان كأساس متين للتفاوض، سواء أكان مباشرًا أو غير مع مباشر، هي شروط سابقة للقبول الطوعي في إنهاء الحالة غير المنتظمة التي تبقى الهاجس الأول والأخير لدى رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، الذي أقدم على خطوة اعتبرها معظم الأفرقاء اللبنانيين جريئة باستثناء ما وصفه
الأمين العام لـ "
حزب الله" الشيخ نعيم قاسم بأنها "سقطة". فتعيين السفير سيمون كرم لترؤوس الوفد اللبناني في لجنة "الميكانيزم" جاء بطبيعة الحال، ووفق ما يراه كثيرون، منسجمًا مع الأهداف التي رسمتها رئاسة الجمهورية في محاولة جادة للخروج من عنق زجاجة الأزمة المعقدّة، التي يعيشها لبنان منذ أكثر من سنتين بفعل الاعتداءات
الإسرائيلية المتواصلة على رغم ما نصّ عليه اتفاق وقف النار قبل سنة من الآن.
وهذا التعيين "الجريء" في نظر كثيرين، و"السقطة" في نظر "حزب الله"، هو المدخل الطبيعي للتوصّل إلى أي حل ممكن ومتاح في ظل الأجواء المتشنجة والضاغطة، التي يعيشها لبنان، خصوصًا بعد زيارة الحبر الأعظم قداسة البابا لاوون الرابع عشر، الذي لم يرَ سبيلًا للخلاص سوى بالسلام، الذي يجب أن يبدأ من مكان ما. وهذا المكان، كما يصفه كثيرون، لا يمكن أن يكون سوى بالتفاوض المباشر بين الأطراف المتنازعين. وهذا التفاوض يفرض أن يجلس المتخاصمون وجهًا لوجه للبحث في الشروط والشروط المضادة. وهذا التفاوض لا يمكن أن يؤدّي إلى أي نتيجة أو تسوية ما لم يطرح كل فريق شروطه على الطاولة.
الشروط
اللبنانية واضحة، وهي انسحاب الجيش
الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية، التي لا يزال يحتلها، ووقف اعتداءاته اليومية، وتحرير الأسرى اللبنانيين. أمّا الشروط الإسرائيلية فمعروفة أيضًا، ولكن من دون أن يعني ذلك أن دون الوصول إلى أي تسوية عقوبات وصعوبات كثيرة، وأهمها أن التفاوض قائم على أساس مطالب وشروط متناقضة ومتضاربة. فلبنان يطالب بالانسحاب ووقف الأعمال العدائية وردّ الأسرى، فيما
إسرائيل تشترط أن يُحصر السلاح بيد القوى اللبنانية الشرعية دون سواها، أقّله في المنطقة الجغرافية الواقعة جنوب نهر الليطاني قبل التسليم بالشروط اللبنانية. وهذا الأمر يقود المراقبين إلى الاعراب عن خشيتهم من ألاّ تؤدي مفاوضات لجنة "الميكانيزم" إلى أي نتيجة عملية، خصوصًا إذا لم تترافق المبادرة اللبنانية بضغوطات باتت مطلوبة اليوم من المجتمع الدولي، وبالأخص من الجانب الأميركي، لكي تُقنع إسرائيل بالمبادرة إلى التسليم بالشروط اللبنانية كمدخل طبيعي لأي حلّ مستقبلي، خصوصًا أن المعنيين بهذا الحلّ قد أصبحوا في جو ما يعلنه الجيش في تقاريره الشهرية أمام الحكومة من أن العقبة الأساسية، التي لا تزال تعيق عمل المؤسسة العسكرية في منطقة جنوب الليطاني، هي ما تقوم به تل أبيب من أعمال عدائية في أكثر من بقعة في هذه المنطقة.
فمع تعيين السفير سيمون كرم يدخل لبنان عمليًا مرحلة جديدة من التعاطي مع ملفّ حدوده الجنوبية، مرحلة تتجاوز الطابع التقني ـــ البروتوكولي، لتضع البلاد أمام اختبار سياسي ـــ ديبلوماسي دقيق، قد يفتح ثغرة في جدار الأزمة أو يكرّس حال المراوحة التي طالت أكثر مما يحتمل البلد، خصوصًا أن
بيروت تنتظر من لجنة "الميكانيزم" أن تكون إطارًا رسميًا يعيد ضبط مسار التواصل غير المباشر، ويُخرج الملف من العشوائية التي رافقت السنوات الماضية، وذلك من خلال تحديد الخطوط الحمر بوضوح، وإدارة التفاوض من موقع الدولة، لا من موقع القوى المتنازعة.
فلبنان الذاهب إلى التفاوض عبر السفير كرم يدرك أن الشروط الثلاثة التي وضعها قد لا تتحقق سريعًا. لكن المهم بالنسبة إلى الجانب اللبناني هو تكريس هذه الشروط في صلب أي نقاش دولي.
ومن أبرز ما ينتظره لبنان أن تشكّل اللجنة منصّة رسمية لتوثيق الاعتداءات الإسرائيلية التي يرفعها الجيش في تقاريره. وبذلك قد يتمكّن لبنان من كشف النوايا الإسرائيلية، مما يتيح للمجتمع الدولي ممارسة ضغط واقعي على تل أبيب.
ولا يغالي المغالون عندما يقولون بأن نجاح اللجنة في مهمتها مرتبط بما تريده
واشنطن، وإذا كانت تريد فعلًا إدارة عملية لتهدئة مستدامة، أمّ أنها تريد فقط إبقاءها مقيدة الحركة لمنع الانفجار الكبير؟
في المقابل فإن لبنان ومهما حاول الاختباء وراء عدم فتح باب النقاش حول مستقبل السلاح جنوب الليطاني لن يستطيع أن يبقى في الموقف المدافع، خصوصًا أن إسرائيل تعتبر هذا البند شرطًا مسبقًا.
إلاّ أن لبنان لا يزال يراهن على أن المناخ الإيجابي الذي تركته زيارة البابا، وما حملته من دعوات إلى السلام، قد يساهم في إعطاء دفع معنوي للجنة.
وانطلاقًا من التعاطي مع الأمور بواقعية سياسية فإن لبنان لا ينتظر معجزات من لجنة "الميكانيزم"، لكنه يأمل في تحقيق خطوات صغيرة يمكن البناء عليها كتثبيت حقه أمام المحافل الدولية، وفضح الخروقات الاسرائيلية، وحماية قرار الدولة في أكثر من ملف داخلي حسّاس.
في الخلاصة، يبدو الطريق إلى الحل طويلًا وشاقًا، لكن التقدّم خطوة واحدة إلى الأمام يبقى أفضل من البقاء في حال من المراوحة القاتلة.