من موظف في متجر ثياب بوسط
بيروت إلى نادل في مطعم في
صيدا، وسائق توصيل في
طرابلس، تتكرر القصة ذاتها: لا عقد، لا ضمان، ولا أي حماية قانونية. فمنذ بدء الانهيار الاقتصادي في
لبنان عام 2019، انفجرت ظاهرة الوظائف غير النظامية، لتتحوّل إلى
القاعدة بدل أن تبقى استثناءً، وليدخل معها السوق اللبناني في دوامة، ترسم ملامح خطيرة للعلاقات التعاقدية في لبنان، التي تغيّب القانون، وتعتمد على الثقة المتبادلة بين الطرفين، التي تنتهي غالبا بخلافات كبيرة. ففي سوق يتقلّص فيه الإنتاج الحقيقي وتنهار فيه المؤسسات الرسمية، باتت الوظائف "على البركة" واقعًا دائمًا: صاحب العمل يدفع كيفما شاء، وفي التوقيت الذي يراه مناسبًا. أما العامل، فإما أن يقبل أو ينضم إلى طابور العاطلين.
وفقًا لتقديرات
البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية، فإن أكثر من 60% من العاملين في لبنان اليوم لا يحظون بأي شكل من أشكال التغطية الاجتماعية. وتشمل هذه النسبة عمال التوصيل، موظفي المتاجر، صالونات التجميل، المهن الفردية، وحتى بعض الموظفين في شركات ناشئة تعاني من ضائقة سيولة. الأسوأ أن الدولة غائبة عن تنظيم هذا الفلتان، حيث لا عمليات تفتيش جدية، ولا عقوبات رادعة، ولا تحديث للأنظمة الرقابية داخل
وزارة العمل.
لم تعد المشكلة في غياب العقود فحسب، بل في تطبيع ثقافة العمل غير الرسمي. فالكثير من أرباب العمل باتوا يرفضون أصلاً صياغة أي عقد، بدعوى أن الوضع الاقتصادي لا يحتمل التزامات. أما العمال، خصوصًا الشباب، فلا يملكون رفاهية الرفض. هذا الواقع أدّى إلى تغييب الحدّ الأدنى للأجور، إذ يتقاضى البعض رواتب أقل من 150 دولارا شهريا، دون أي بدل نقل، أو تعويض إجازات، أو حماية ضد الطرد التعسفي.
سارة، شابة في العشرينات، تعمل في مركز تجميل في المتن منذ أكثر من سنتين. تقول لـ"
لبنان24": كل شهر راتبي يختلف، لا أعلم إن كنت سأُدفع بالدولار أو بالليرة. لا ضمان، ولا حوافز. وإذا مرضت، أتحمل التكلفة وحدي". أما وليد، سائق دليفري يعمل 12 ساعة يوميًا في بيروت، فيروي: "لا يوجد عقد، ولا حتى تأمين للدراجة. إذا تعرضت لحادث، أنا المسؤول وحدي. وكل ذلك مقابل 20 دولارا يوميا".
من جهتهم، يبرّر بعض أصحاب العمل ذلك بالظروف الصعبة. فيسألون:" "كيف نسجل موظفًا في الضمان، ولا أستطيع تأمين كلفة الاشتراك الشهري؟ لو التزمت بالقانون، سأُقفل غدًا".
لكن هذه المبررات لا تعفيهم قانونيًا، ولا تُنهي مسؤوليتهم الأخلاقية والاجتماعية. فغياب أي حد أدنى من الضمانات يجعل العامل اللبناني بلا أفق، ويزيد من تسرب الكفاءات نحو الخارج.
ورغم مرور سنوات على الانهيار، لا يزال النظام القانوني اللبناني يفتقر إلى إطار واضح يحمي العامل غير النظامي. فالقوانين الحالية تفترض أن علاقة العمل تبدأ بعقد خطي، لكنها لا تنص على أي آلية لمراقبة أو توثيق العلاقات الشفهية، أو العمل الموسمي. كما أن أجهزة التفتيش، على ما يبدو، تعاني من نقص فادح في الكوادر، مع غياب أي تحديث لآليات الرقابة، خاصة في القطاعات المستجدة كالتوصيل والخدمات الإلكترونية.
ظاهرة العمل غير النظامي لا تضر الأفراد فحسب، بل تُقوّض الركائز الاجتماعية للدولة: فلا اشتراكات للضمان، ولا ضرائب حقيقية، ولا قدرة على تقدير الناتج الوطني. والأسوأ، أنها تدفع الآلاف للهجرة أو الانزلاق نحو اقتصاد الظل، في ظل غياب أي خطة حكومية لإنقاذ سوق العمل. إذا استمرت هذه الظاهرة بلا معالجة، فسيجد لبنان نفسه قريبًا أمام سوق عمل مشوّه بالكامل: لا حقوق، لا حماية، ولا مستقبل. المطلوب ليس فقط إصلاحًا اقتصاديًا، بل مشروع متكامل لإعادة تنظيم العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وإعادة الاعتبار إلى قيمة العمل
الكريم.