كتب البروفسور كلود عطية: في كل مرة يُطرح فيها سؤال «ما مستقبل الأستاذ الجامعي في عصر
الذكاء الاصطناعي؟» أشعر أنّ السؤال ذاته يتضمّن مغالطة معرفية عميقة، لأنه يفترض أنّ مهنة الأستاذ قابلة للقياس بمقاييس أداء الأدوات، بينما الحقيقة أن الأستاذ الجامعي ليس وظيفة تقنية، بل بنية معرفية–ثقافية–أخلاقية لا يمكن ردّها إلى أي نموذج حسابي مهما بلغت قدرته. فالذكاء الاصطناعي — بمختلف نماذجه — يشتغل على تمثيلات لغوية ضخمة تستخرج من البيانات أنماطًا وتعيد تركيبها، لكنه لا يعيش ما يسمّيه ادموند هوسرل «تجربة الوعي المقصود»، ولا يدرك ما يُسميه بول ريكور «توتّر المعنى»، ولا يعرف تلك المنطقة الخفية التي تتشكل فيها المعرفة كتجربة إنسانية لا كخوارزمية.
هنا بالضبط يظهر فارق جوهري: الطالب يتعامل مع الذكاء الاصطناعي كوسيلة أسرع للوصول إلى المعلومة، بينما يتعامل الأستاذ الجامعي معه كظاهرة معرفية تحتاج إلى قراءة نقدية، وتحليل لمنطقها الداخلي، وتحديد لحدودها الإبستمولوجية. إن القدرة على استخدام الذكاء الاصطناعي ليست معيارًا للحداثة؛ المعيار الحقيقي هو القدرة على فهم ما ينتجه الذكاء الاصطناعي: كيف يُنتجه؟ بأي افتراضات؟ وبأي فجوات معرفية؟ وما هي الآثار التربوية والمنهجية والأخلاقية التي يتركها على المتعلّم؟ هذه القدرة النقدية لا يمتلكها إلا من عاش المعرفة كتجربة، وشاهد تحوّلاتها، وعاين صراعها
الطويل بين الوصف والتأويل، بين الكمّ والكيف، بين السرعة والعمق.
الأستاذ الجامعي،خلافًا لما يتصور كثيرون ،ليس مجرّد وسيط بين الطالب والمعلومات. مهمته ليست نقلًا للمعرفة، بل تنظيمًا لبنيتها. هو العقل الذي يحرّر الطالب من وهم اكتمال الإجابة، ويعيده إلى أصل العملية التعليمية: القلق، السؤال، الشك، وإعادة البناء. لذلك يقول عالم التربية
الاميركي جون هارتفيلد: «المعلومة لا تربي، الذي يربي هو الإنسان الذي يعرف كيف يحوّل المعلومة إلى وعي». وفي هذا المعنى، يبقى الأستاذ الجامعي هو الكينونة الوحيدة القادرة على تحويل البيانات إلى معرفة، والمعرفة إلى فهم، والفهم إلى حكم، والحكم إلى حكمة.
واللافت أن الخوف من استبدال الأستاذ بالآلة لا يأتي من فهم علمي لحدود الذكاء الاصطناعي، بل من جهل بطبيعة مهنة الأستاذ. فالآلة تستطيع أن تدوّن نصًا، لكنها لا تستطيع أن تتساءل بشأنه. تستطيع أن تجمع مراجع، لكنها لا تفهم «تاريخ» هذه المراجع. تستطيع أن تبني جملة، لكنها لا تدرك ما إذا كانت الجملة تنتمي إلى تقليد معرفي معيّن، أو إلى فرضية إيديولوجية مضمَرة. الأساتذة، خلال عقود من القراءة والتدريس والإشراف العلمي، يطورون ما يسميه بيير بورديو «الحسّ المعرفي» — ذلك الحدس العميق الذي يمكّنهم من اكتشاف الخلل في الحجة، والتشقق في المنطق، والتناقض في النص، حتى وإن بدا لغويًا متماسكًا. وهذا الحسّ لا يُدرّس، ولا يُبرمج، ولا يمكن تجريده في نموذج
رياضي.
إن دخول الذكاء الاصطناعي إلى الجامعة لا ينتقص من مكانة الأستاذ، بل يعيد تعريف دوره. فبدل أن يكون مصدرًا للمعلومة، يصبح حارسًا للمنهج. بدل أن يكون ملقّنًا، يصبح مفسّرًا. وبدل أن يكون مركز الإجابة، يصبح مركز المساءلة. إن ما يتآكل اليوم ليس سلطة الأستاذ، بل وهم الطالب بأنه يستطيع، عبر النصوص الجاهزة، أن يتجاوز المراحل الأساسية للتفكير النقدي. في الحقيقة، كلما ازداد حضور الذكاء الاصطناعي، ازدادت حاجة المؤسسة الجامعية إلى عقل يضبط الإيقاع، ويراقب مفاعيل التقنية على الوعي، ويمنع الانزلاق نحو المعرفة السطحية التي تشبه ما يسميه عالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا «التسريع الفارغ» — ذلك الإحساس بأن السرعة تحلّ مكان المعنى.
الطالب في عصر وفرة المعلومات لا يحتاج إلى معلّم، بل إلى مؤوِّل. لا يحتاج إلى معرفة إضافية، بل إلى قدرة على تمييز الصحيح من الملتبس، الحقيقي من الزائف، العلمي من الاستعراضي. وهنا تتجلى الوظيفة الوجودية للأستاذ الجامعي: حماية الطالب من الفوضى المعرفية، من تضخّم النصوص، من إغراء الأساليب السهلة، ومن لحظة الانبهار التي تأسره وتمنعه من رؤية العيوب المنهجية. وظيفة الأستاذ اليوم ليست تعليم الطالب كيف يكتب، بل تعليم الطالب كيف يفكر فيما يكتب، وكيف ينتقد ما يقرأ، وكيف يكتشف أثر التقنية على بنيته المعرفية.
بهذا المعنى، يصبح
النقاش حول «استبدال الأستاذ» نقاشًا خارج الموضوع. فالذكاء الاصطناعي، مهما تطوّر، يبقى أداة؛ والأستاذ الجامعي، مهما تغيّرت الأدوات، يبقى بنية. الأداة تُستخدم، أما البنية فتشكّل طريقة الاستخدام. الأداة تنتج نصًا، أما البنية فتنشئ عقلًا. ومن دون عقل نقدي، لن يكون للجامعة مستقبل ولا للمعرفة أثر.
إن قيمة الأستاذ الجامعي اليوم لا تأتي من تفوقه على الأدوات، بل من تفوقه على الفوضى. من قدرته على قراءة التقنية كجزء من تطور الوعي
البشري، لا كبديل عنه. من قدرته على تحويل الذكاء الاصطناعي من تهديد إلى فرصة، ومن منافس إلى شريك، ومن نموذج حسابي إلى مادة للنقاش. الأستاذ الجامعي هو، في النهاية، آخر الحلقات الإنسانية التي تضمن ألا يتحول العقل إلى وظيفة، وأن تبقى المعرفة فعلًا حيًا لا معادلة جامدة.
ولهذا، فإن مستقبل الجامعة — رغم كل ما يُقال — سيظل مرهونًا بالأستاذ الجامعي، لا لأنه «الأهم»، بل لأنه الشرط المعرفي لوجود الجامعة نفسها. فالآلة توسّع المدى، لكن الإنسان وحده يعطي الاتجاه. وإذا فقدت الجامعة الاتجاه، لن ينقذها أي ذكاء صناعي… بل سيعيد إحياءها الأستاذ الجامعي مرة أخرى، كما فعل منذ قرون، وكما سيفعل في كل ثورة معرفية قادمة.