في بلدٍ يعيش واحدة من أقسى أزماته الاقتصادية منذ عام 2019، تبدو أبواب العدالة العمالية في
لبنان موصدة في وجه من يحتاجونها أكثر من غيرهم. فمنذ ربيع 2023، تعطّلت مجالس العمل التحكيمية في معظم المحافظات، نتيجة سلسلة إضرابات وتراكم أزمات داخل الجسم القضائي، فتحوّل حق العمال في التقاضي والطعن في قرارات الصرف التعسفي وانتهاكات العمل إلى حق نظري على الورق، بلا ممر فعلي إلى المحاكم المختصة.
هذا الشلل لا يحدث في زمن بحبوحة، بل في قلب انهيار مالي أطاح بقيمة الأجور والتعويضات، وقلّص مكافآت نهاية الخدمة ومدّخرات عمر لآلاف العائلات. من دون مجالس عمل تحكيمية فعّالة، يصبح العامل الذي خسر عمله أو جرى استغلاله، أعزل تماماً أمام صاحب العمل، لا يستطيع تحصيل راتب متأخّر، ولا الطعن في صرف تعسفي، ولا حتى تثبيت حق بسيط كتسجيل سنوات خدمته.
في الأصل، شُكِّلت مجالس العمل التحكيمية كـ"محاكم خاصة" لقضايا العمل، يفترض أن تبتّ النزاعات بين الأجراء وأصحاب العمل خلال مهلة ثلاثة أشهر، وفق
قانون العمل اللبناني. لكن الواقع مختلف تماماً: حتى قبل الشلل الكامل، كانت الملفات تتكدّس لسنوات. فبحسب دراسة حقوقية، بلغ عدد الشكاوى المقدّمة بين 2017 و2023 نحو 5000 شكوى أمام
مجلس العمل التحكيمي في
بيروت، و6500 شكوى في
جبل لبنان، ولا يزال حوالي أكثر من 60% منها من دون أحكام، ما يعني عملياً أن عدداً كبيراً من العمال ينتظرون حكماً قد لا يصل أبداً.
ومع استمرار تعليق عمل بعض المجالس منذ أكثر من عامين في معظم المحافظات، تضاعف حجم الأزمة. آلاف الدعاوى الجديدة عالقة، لا تُحدَّد لها جلسات ولا تُبتّ. جوهر الأزمة بدأ عندما توقّف مفوّضو الحكومة عن حضور جلسات مجالس العمل التحكيمية في نيسان 2023، احتجاجاً على تدنّي بدل حضور الجلسات بعد انهيار الليرة. لاحقاً، انضم إليهم ممثلو العمال وأصحاب العمل، بعدما جرى الحديث عن تعديل بدلات حضور فئة من أعضاء الهيئات دون أخرى، فتحوّل الاعتراض إلى تعطيل شامل تقريباً لمحاكم العمل.
اليوم، تقول مصادر نقابية لـ"
لبنان24" أنّ الازمة لا تزال عند النقطة نفسها تقريباً. وتضيف:" في ظل هذه الوقائع، يجد العامل اللبناني نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ، فإمّا القبول بتسوية "على البارد" يفرضها صاحب العمل، يساوم فيها على تعويض أقل بكثير من حقه، فقط لأنه يعرف أن
القضاء متوقّف أو بطيء، وإمّا تقديم شكوى يعرف مسبقاً أنها ستنام سنوات في الأدراج من دون جلسة واحدة".
تقديرات تشير إلى أن أكثر من 1.7 مليون عامل يتأثرون بهذا الشلل، بين أجراء في القطاع الخاص، وموظفين بموجب عقود، وعاملين في القطاعات الإعلامية والخدمية والصناعية وسواها، جميعهم يواجهون خطر الاستغلال من دون شبكة حماية قضائية فعّالة.
البيانات النقابية والحقوقية تتحدث صراحة عن أن العديد من أصحاب العمل استغلّوا الفراغ القضائي لإنهاء عقود العمل تحت ذريعة الأزمة، من دون دفع التعويضات المستحقة، أو عبر الضغط على العامل للقبول بتسويات مجحفة. في بعض الحالات، يتعلّق الأمر بملفات صرف على خلفية حرية التعبير أو نشاط نقابي مشروع، لكن غياب محاكم العمل الفاعلة حوّل هذه
القضايا إلى ملفات معلّقة، وبقي أصحابها بلا تعويض ولا إنصاف.
في السياق، علم "لبنان24" أنّ الامر لا يقتصر على قطاع بعينه؛ فمن المصانع والمؤسسات التجارية إلى
وسائل الإعلام، تتكرر الرواية نفسها: "تم صرفنا بذريعة الأزمة، طُلب منا توقيع براءة ذمّة للحصول على جزء بسيط من حقوقنا، وإن رفضنا، قيل لنا: المحاكم معطلة، ولن تحصلوا على شيء".