في الكواليس السياسية، بعيدًا عن الأضواء والخطابات العلنية، يتقدّم صراع لم يعد صامتا، بل بات متصاعدا بين رئيس الجمهورية جوزيف عون من جهة، والقوات
اللبنانية ورئيسها سمير جعجع من جهة أخرى. هذا الصراع، الذي كان يُدار سابقًا بحذر شديد، بدأ يتحول تدريجيًا إلى مشهد يومي شبه اعتيادي، تُترجم فصوله في المواقف، والتسريبات، والتباينات الحادة حول ملفات أساسية، من دون أن يصل بعد إلى مواجهة مباشرة مكشوفة.
جوهر هذا الخلاف لا يرتبط بتفصيل عابر أو بسوء تفاهم سياسي، بل ينبع من مقاربتين مختلفتين كليًا للمرحلة المقبلة. سمير جعجع يعتقد، وبقناعة راسخة لديه ، أن التقدم السياسي الذي حققته
القوات اللبنانية في المرحلة الأخيرة، سواء على مستوى الحضور النيابي أو التأثير السياسي، او انتصار مشروعها في المنطقة، يجب أن يُترجم نتائج ملموسة تعود عليه شخصيًا وعلى فريقه. من هذا المنطلق، يرى جعجع أن لحظة الاستثمار السياسي قد حانت، وأن أي مسار يؤدي إلى تكريس زعامة
مسيحية أخرى على حسابه هو مسار غير مقبول، خصوصًا إذا كان هذا المسار يقود إلى رئاسة قوية قادرة على إعادة إنتاج زعامة شبيهة بتجربة
ميشال عون في أوجها.
هنا تحديدًا تكمن العقدة الثانية في الصراع. نجاح عهد جوزيف عون، إذا تحقق، لن يكون نجاحًا إداريًا أو مؤسساتيًا فحسب، بل سيحمل معه بُعدًا سياسيًا وشعبيًا. فالرئيس الذي ينجح في فرض حضوره، وإدارة الدولة بحدّ أدنى من التوازن والاستقرار، سيتحول تلقائيًا إلى زعيم
مسيحي منافس، يمتلك شرعية الإنجاز لا مجرد الخطاب. هذا الاحتمال يُنظر إليه داخل القوات اللبنانية كتهديد مباشر لموقع جعجع ودوره، ما يفسر عدم الحماسة لتسهيل مهمة
العهد أو منحه المساحة اللازمة لتحقيق اختراقات نوعية.
أما العنوان الثالث والأكثر حساسية، فيتجسد في ملف التعيينات. فالعهد الرئاسي يتصرف انطلاقًا من منطق الحكم، أي السعي إلى اختيار أسماء يراها قادرة على تنفيذ رؤيته وإدارة المؤسسات. في المقابل، يتعامل جعجع مع التعيينات، وخصوصًا
المسيحية منها، بوصفها حقًا سياسيًا مكتسبًا، يجب أن ينعكس نفوذًا مباشرًا داخل الدولة. هذا التناقض يحوّل كل تعيين إلى ساحة اشتباك جديدة، ويعمّق الشرخ القائم.
الصراع بين الرجلين ليس صراعًا شخصيًا بقدر ما هو صراع على الزعامة والدور والمستقبل السياسي للمسيحيين في
لبنان. ومع غياب أي مؤشرات جدية على التهدئة، يبدو أن هذا الاشتباك الصامت مرشّح للاستمرار، وربما للتصاعد، كلما اقترب العهد من لحظات مفصلية تتطلب حسمًا لا يحتمل التسويات الرمادية.