هو سباق بين مساعي اللحظة الأخيرة التي تقوم بها فرنسا لتجنيب لبنان حربًا شاملة وقاسية ما تنفكّ إسرائيل تهدّد بها وملوحة بأنها ستكون مع نهاية هذه السنة، ومع انتهاء المرحلة الأولى من خطّة الجيش القاضية بحصر السلاح بيد القوى الشرعية دون سواها من قوى الأمر الواقع. وهذه التهديدات المتصاعدة تترافق مع حملة تشكيك واسعة وممنهجة من قِبل الحكومة الإسرائيلية بعدم قدرة السلطة اللبنانية على فرض وجودها في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني.
وبين التهديدات الإسرائيلية والمساعي الديبلوماسية يبرز تحرك لافت لباريس التي تسعى بدورها إلى اقناع تل أبيب بعدم جدوى هذه الحرب، التي ستقود المنطقة إلى حال من الفوضى وعدم الاستقرار مما يؤثّر سلبًا المناخ الإيجابي، الذي تركته زيارة البابا لاوون الرابع عشر للبنان. فهل تنجح باريس في هذا المسعى، خصوصًا أن ما تبّلغه المسؤولون اللبنانيون من رسائل تحذيرية غربية يؤكد أن تل أبيب ماضية في مخططها التوسعي بغض النظر عمّا تتعرّض له من ضغوطات خارجية يبدو أنها غير كافية حتى الآن، إلا إذا استطاعت باريس النجاح في مساعي التهدئة.
ففي هذا المناخ الملبّد، تبدو فرنسا اللاعب الخارجي شبه الوحيد
القادر على التحرّك بين مختلف الأطراف. فهي تمسك بخيوط تواصل مع تل أبيب وواشنطن وطهران، فضلًا عن علاقتها التقليدية مع
بيروت. ومن هنا، يراهن اللبنانيون على قدرة باريس على تحويل "اللحظة الحرجة" إلى فرصة لفرض تهدئة مستدامة، أو على الأقل تأجيل الانفجار الذي قد يعصف بالمنطقة كلها.
ومن المقرر، وفق المعلومات المتداولة، أن يشهد الأسبوع المقبل نشاطاً دبلوماسياً – سياسياً – عسكرياً في باريس مع الزيارة التي يقوم بها قائد الجيش العماد رودولف هيكل للعاصمة
الفرنسية للبحث في احتياجات الجيش، كما ستحضر المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، التي ستُجري محادثات مع المبعوث الفرنسي إلى لبنان جان إيف لودريان العائد من بيروت ومع مستشارة الرئيس الفرنسي لشؤون
الشرق الأوسط آن كلير لو جاندر بعد زيارتها إسرائيل ولبنان.
كما يزور باريس للمشاركة في المحادثات حول لبنان الأمير يزيد بن فرحان، وذلك بعد اتصال حصل قبل أيام بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، يُفترض أنه تناول ملف دعم الجيش، خصوصاً أن باريس، وباقي العواصم، غير مقتنعة بحسب ما نقله موفدون غربيون إلى المسؤولين اللبنانيين، بأن التصعيد
الإسرائيلي تراجع لصالح المسار الديبلوماسي على رغمَ ملاقاة بيروت الطلب الأميركي بإطلاق مفاوضات مدنية مع العدو.
وبحسب ما هو ظاهر فإن باريس تستند في مبادرتها إلى عاملين أساسيين: الأول، وجود إطار تفاوضي قائم هو لجنة "الميكانيزم"، التي باتت تضم ممثلين مدنيين من لبنان وإسرائيل، ما يعدّ تطورًا غير مسبوق يفتح الباب أمام نقاش غير عسكري في بعض الملفات. ويُعتقد أن انضمام مدنيين اثنين من الطائفتين الشيعية والسنية إلى "الميكانيزيم" قد يعطي انطباعًا بالنسبة إلى جدّية الرئاسة اللبنانية بالتعاطي مع موضوع التفاوض على أساس الشروط اللبنانية، التي لن يتنازل عنها لبنان تحت أي ظرف.
أمّا العامل الثاني فهو التعويل الدولي على الجيش، الذي أثبت في الأشهر الأخيرة قدرة على المبادرة وتنفيذ خططه وفق جدول زمني دقيق، على رغم عدم اكتمال البيئة السياسية الداعمة.
ووفق بعض المؤشرات الإيجابية أن نجاح المرحلة الأولى من خطة الجيش شجّع باريس على رفع سقف تحركها، خصوصًا أن المؤسسة العسكرية باتت أحد عناصر الاطمئنان النادرة الوجود في لبنان. ففي نظر العديد من العواصم، يشكّل الجيش اليوم صمام الأمان الوحيد القادر على ضبط أي اتفاق محتمل أو أي ترتيبات ميدانية بديلة.
لكن يبقى السؤال الذي يشغل بال الجميع وهو الأعمق حاليًا عن مدى قدرة باريس على فرملة قرار التصعيد الإسرائيلي.
فالمشهد اللبناني اليوم يبدو محكومًا بمسارين متوازيين: المسار الديبلوماسي الفرنسي الساعي إلى تحييد لبنان عن مواجهة مفتوحة، عبر توسيع هامش الحوار داخل لجنة "الميكانيزم"، ومسار تصعيدي إسرائيلي يتحرك بخلفيات سياسية وأمنية، ويراهن على إحداث تغيير جذري في البيئة العسكرية جنوب الليطاني، حتى لو أدى ذلك إلى مواجهة واسعة.
وبين هذين المسارين، يترقب لبنان نهاية سنة قد تكون الأخطر منذ سنوات طويلة. فهل يكفي الجهد الفرنسي لتعديل ميزان القوى ومنع الانفجار، أم أن المنطقة تتّجه، مهما تزايدت المبادرات، نحو حرب مفتوحة؟