لم يكن الرئيس
نبيه بري ليغامر بالدعوة إلى جلسة تشريعية لو لم يكن واثقًا سلفًا من تأمين نصابها. فالرجل الذي يعرف المجلس النيابي وتوازناته عن ظهر قلب، يدرك متى يدعو ومتى ينتظر. ومن هنا، لا يمكن فصل انعقاد جلسة اليوم عن حسابات دقيقة، حتى ولو غاب عن جدول أعمالها اقتراح القانون المعجّل المكرّر المتعلّق بتعديل المادة 112 من قانون الانتخاب، والذي يبقى، عمليًا، مفتاح إجراء الانتخابات النيابية في موعدها الدستوري.
غياب هذا البند لم يكن تفصيلًا عابرًا، بل رسالة سياسية واضحة. فعدم إقرار التعديلات الضرورية يضع الاستحقاق النيابي برمّته في دائرة الشك، ويفتح الباب واسعًا أمام سجال دستوري وسياسي حول مصير الانتخابات، التي باتت، في نظر عدد من النواب، أقرب إلى التأجيل منها إلى الالتزام بالموعد. وهنا، يكون الرئيس
بري قد حقّق هدفه الأساسي، وهو إدارة الإيقاع السياسي للاستحقاق بدل الانجرار خلف الضغوط أو المزايدات.
الأكثر دلالة أن النصاب لم يكن ليتأمّن لولا مشاركة نواب سبق لهم أن قاطعوا جلستين تشريعيتين وأسهموا في "تطيير" نصابهما. فما الذي تغيّر بين الأمس واليوم؟ سؤال مشروع، لكن الأجوبة عنه تتراوح بين سوء تقدير سياسي، ورهانات غير محسوبة في لحظة إقليمية بالغة الدقّة، فيما
لبنان يواجه تطوّرات متسارعة تتطلّب أعلى درجات الوعي، لا الغفلة أو الإنكار.
بالنسبة إلى من شاركوا في جلسة اليوم، هي بداية لمسار جديد، لكن مقاربة هذه "البداية" تختلف بين اتجاهين. الأول يرى فيها خروجًا من منطق "غالب ومغلوب"، ودخولًا إلى حسابات الربح والخسارة السياسية، في محاولة لتعويض خسائر الميدان بالسياسة. أما الاتجاه الثاني، فيعتبر أن المشاركة لم تكن لتتمّ لولا مناخ يوحي بتوافق غير معلن على تأجيل تقني للاستحقاق النيابي، مهما ارتفعت نبرة التمسّك العلني بالمواعيد الدستورية.
لكن قراءة مصير الانتخابات النيابية بمعزل عن التوازنات الإقليمية والضغوط الخارجية تبقى قاصرة. فالاستحقاق لم يعد شأنًا داخليًا صرفًا، بل بات جزءًا من مشهد إقليمي شديد التعقيد، حيث يُستخدم لبنان مجددًا كورقة في بازار التسويات المفتوح، من الجنوب اللبناني إلى غزة، ومن طهران إلى
واشنطن مرورًا بباريس. وفي هذا السياق، يصبح الالتزام بالمواعيد الدستورية خاضعًا لحسابات تتجاوز قدرة القوى الداخلية على الحسم، وترتبط بمدى نضوج التسويات أو تعثّرها.
فالضغوط الدولية، ولا سيما الأميركية والفرنسية، لا تنطلق فقط من حرص نظري على الديمقراطية، بل من مقاربة أمنية – سياسية ترى في الانتخابات أداة لإعادة إنتاج السلطة بما ينسجم مع توازنات ما بعد المواجهة المفتوحة مع
إسرائيل، أو ما قبلها. وعليه، فإن أي قرار بإجراء الانتخابات في موعدها أو تأجيلها لن يكون منفصلًا عن مصير الجبهة الجنوبية، ولا عن موقع لبنان في معادلة الصراع الإقليمي، ولا عن حجم النفوذ المتنازع عليه داخله.
من هنا، يمكن فهم إدارة الرئيس بري لهذا الملف على قاعدة انتظار الإشارة الخارجية المناسبة قبل الذهاب إلى الحسم، فيما يرفع خصومه لواء السيادة والالتزام الدستوري من دون امتلاك أدوات فرض المواعيد. وفي الخلاصة، يصعب إنكار أن بري خرج من جلسة اليوم بنقطة سياسية إضافية في رصيده، فيما بدا خصومه، وخصوصًا المقاطعون السابقون، في موقع المتراجع ولو مرحليًا، بعد السجال الحاد الذي سبق الجلسة، وتجلّى بوضوح في التغريدات المتلاحقة لرئيس حزب "
القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع.
هدفٌ سياسي سجّله الرئيس بري اليوم بهدوء تحت قبة البرلمان، لكن صداه سيتردّد طويلًا خارجها، وعلى المستوى السياسي المترافق مع حملات منظّمة على المؤسسة العسكرية مع اقتراب موعد انتهاء المرحلة الأولى من خطة القيادة العسكرية، والانتقال إلى المرحلة الثانية شمال نهر الليطاني.