تحت أنظار
صندوق النقد الدولي، تسعى الحكومة لإنجاز مشروع الفجوة المالية قبل نهاية العام، وقد شهدت الأيام الماضية اجتماعات متواصلة ما بين فريق العمل الحكومي، وخبراء صندوق النقد، للتوصّل إلى مسودّة نهائيّة للمشروع الذي سيكون غدا على طاولة
مجلس الوزراء. لا يوجد نص واضح أو وثيقة حول توزيع الخسائر والمسؤوليات بين الجهات الثلاث، الدولة
مصرف لبنان والمصارف، ولكن هناك تسريبات وتقارير إعلاميّة تناولت ملاحظات صندوق النقد الدولي على المسودة خلال الاجتماعات التقنية،كانت كافية لاشتعال الجدل على جبهة المصارف، خصوصًا أنّ صندوق النقد يدفع باتجاه اعتماد مبدأ تراتبيّة الحقوق والمطالب عند توزيع الخسائر، عبر استنفاد رأسمال المصرف، أي مساهمات أصحابه، قبل الانتقال لتوزيع الخسارة لأي طرف آخر.
المصارف: الدولة تلقي كامل المسؤولية على المصارف
من هنا كان تحرك وفد من جمعية المصارف باتجاه رئيس الحكومة نواف سلام عصر الأربعاء الماضي، أعقبه بيان من رئاسة الحكومة رأى خلاله سلام أنّ"المصارف عليها أن تكون شريكة أساسيّة في إعادة بناء الثقة باقتصاد البلاد". وقبل اللقاء، سجّلت الجمعية ملاحظاتها على النسخة المسرّبة، فاعتبرت في بيان صادر عنها أنّ "المشروع تعتريه عيوب ويتضمّن أحكامًا من شأنها تقويض النظام المصرفي " واعتبرت أنّه “من غير المقبول، أن تتهرّب الدولة من مسؤولياتها وتلقيها على البنوك وتتسبّب بتصفية القطاع والقضاء على حقّ المودعين باستعادة ودائعهم".
غبريل: الأزمة ناتجة عن سوء استخدام السلطة
الباحث الاقتصادي والخبير المالي والمصرفي الدكتور نسيب غبريل لفت إلى أنّ المسؤولية عن الأزمة يجب أن تتوزّع بين الدولة ومصرف
لبنان والمصارف التجارية، لا أن تُحمَّل حصرًا للأخيرة. وأشار في حديث لـ "
لبنان 24" إلى أنّ النسخة الموزعة تُعفي الدولة ومصرف لبنان من أي
التزام مباشر بالسيولة، فيما تُلقي العبء كاملاً على المصارف. موضحًا أنّ سيولة المصارف التجارية لدى المصارف المراسلة تبلغ نحو 5.2 مليارات دولار، ولا يمكن استخدام أكثر من 3.2 مليارات منها بسبب الحاجة إلى تغطية حسابات «الفريش». في المقابل، يمتلك مصرف لبنان نحو 11.9 مليار دولار احتياطي عملات أجنبية، منها 800 مليون للقطاع العام، فيما يُعدّ المتبقي، أي 11.1 مليار دولار، احتياطًا إلزاميًّا يعود للمودعين. وبجمع الرقمين، تصل السيولة المتاحة إلى نحو 17 مليار دولار، مقابل التزامات تتراوح بين 22 و25 مليار دولار خلال أربع سنوات وفق مشروع الفجوة المالية، ما يطرح تساؤلات حول قدرة المصارف وحدها على إعادة الودائع.
ويشدّد غبريل على أنّ الدولة مطالبة بالمساهمة في ردّ حقوق المودعين، معتبرًا أنّ جوهر الأزمة ليس تقنياً، بل ناتج عن سوء استخدام السلطة السياسية وسوء إدارة المؤسسات العامة، ما قاد إلى أزمة ثقة بدأت عام 2018 وتحوّلت خلال 2019 إلى أزمة سيولة، مع فقدان الثقة واندفاع المودعين للسحب، وهو أمر لا يستطيع أيّ نظام مصرفي في العالم تحمّله دفعةًواحدة.
فحيلي: يفنّد ملاحظات صندوق النقد ..شكوك حول القدرة على الوفاء بالودائع المتوسطة والكبيرة
الخبير في المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي رأى أنّ النقطة الخلافيّة المتعلقة بتراتبّية الحقوق، تعد الأكثر حساسية، وتعني تحميل الخسائر وفق تسلسل قانوني يبدأ برأس المال والمساهمين قبل الدائنين، وبينهم المودعون. ويعتبر صندوق النقد أن أي نص يحمّل الودائع خسائر قبل استنفاد رساميل المساهمين يُخالف هذه
القاعدة. أضاف فحيلي أنّ القانون الذي يبدو كأنه يحمي المساهمين أو يعيد إنتاج الامتيازات، لن يحظى بقبول اجتماعي، ولن يصمد قانونيًا إذا خالف مبادئ الإفلاس "وفي لبنان، حيث تداخلت مسؤوليات المصارف والدولة والمصرف المركزي، يصبح احترام التراتبيّة شرطًا للعدالة، قبل أن يكون مطلبًا تقنيًّا لصندوق النقد."
يقسّم المشروع الودائع المكوّنة قبل عام 2019 إلى أربع فئات: صغيرة دون 100 ألف دولار، ومتوسطة بين 100 ألف ومليون دولار، وكبيرة من مليون إلى خمسة ملايين دولار، وكبيرة جدًا تفوق خمسة ملايين دولار. وتُسدَّد لجميع الفئات قيمة تصل إلى 100 ألف دولار نقدًا على أربع دفعات سنوية متساوية، فيما يُحوَّل الرصيد المتبقي إلى سندات ماليّة قابلة للتداول بفائدة غير مركّبة تبلغ 2% سنويًا، مع آجال استحقاق تمتد إلى 10 سنوات للودائع المتوسطة، و15 سنة للكبيرة، و20 سنة للكبيرة جدًا.
خلال مراجعته لملاحظات صندوق النقد، يشير فحيلي إلى أنّ عقدة الاستدامة تكمن في القدرة الفعليّة على خدمة الالتزامات تجاه الودائع المتوسطة والكبيرة،إذا أُديرت عبر أدوات سداد طويلة الأجل، وفي توافر تدفّقات نقدية حقيقيّة تجعل الالتزامات قابلة للتنفيذ. ويؤكد أنّ هذه التدفّقات لا تتحقق إلا عبر أرباح موثّقة، ورسملة فعليّة تضخ أموالًا جديدة لا قيودًا محاسبيّة، وإدارة شفّافة للأصول ضمن حوكمة صارمة، إلى جانب نمو اقتصادي حقيقي. ومن دون ذلك، تتحوّل الأدوات الطويلة الأجل إلى وسيلة لتأجيل الخسائر لا أكثر.
ماذا عن رسملة مصرف لبنان؟
يتفرّع عن مفهوم الاستدامة سؤال أساسي حول مصير المصارف غير القابلة للحياة، في السياق لفت فحيلي إلى إذ مطالبة الصندوق بنصّ واضح يحدّد حماية المودعين وكلفة التصفية، لأن غياب القواعد يحوّلها من إجراء مالي إلى فوضى اجتماعيّة وقضائيّة. وفي صلب
النقاش يلفت فحيلي إلى مسألة رسملة مصرف لبنان "حيث يُنقل أنّ الصندوق لا يرى ضمانات كافية لإعادتها ولو إلى الصفر، ولا لتأمين إيرادات تغطّي نفقاته وتحافظ على احتياطاته، بما يسمح له بأداء دوره وعدم تحوّله إلى جزء من الأزمة. ويتّصل بذلك، الجدلُ حول دين الدولة للمصرف المركزي، ومدى اعترافها به، وانعكاسه على حقوق المودعين واستدامة الماليّة العامة.
يختم فحيلي بالإشارة إلى أنّ مجمل هذه النقاط يدفع النقاش من العموميات إلى قواعد قابلة للمحاسبة، ويطرح سؤالًا جوهريًا: هل يُكتب قانون يحمي العدالة ولا يحمّل المودعين الخسائر قبل المسؤولين عنها؟ أمّا تحويل هذه العناوين إلى شعارات بلا نصوص قابلة للتطبيق، لن يؤدي إلا إلى تكرار الفشل".
في المحصّلة، يتجاوز قانون الفجوة الماليّة كونه إجراءً تقنيًا ليغدو وثيقة تأسيسيّة ترسم أسس إعادة هيكلة النظام المالي برمّته، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة قوامها استعادة ثقة المودعين وتكريس حوكمة صارمة. لذلك،يفترض مقاربة واضحة تُحدّد المسؤوليات وفق تراتبية عادلة، وتوفّر شروط الاستدامة الفعلية لإعادة الودائع، وإلّا سيُعاد إنتاج الأزمة نفسها بصيغة قانونيّة مؤجَّلة.