اقرت الحكومة "مشروع قانون الانتظام المالي وسداد أموال المودعين، ورمت بكرة اللهب إلى ملعب مجلس النواب ، حيث سيخضع مشروع القانون لدراسة معمقة في لجنة المال والموازنة واللجان المشتركة، قبل إحالته إلى الهيئة العامة لمجلس النواب. ومهّدت الاعتراضات السياسية بعد الإعلان عن إقراره، لشكل الاعتراض عليه قانونياً في المجلس النيابي ، مما يهدد بإطالة البحث فيه، أو إخضاعه لتعديلات جوهرية قبل إقراره.
وكتبت سلوى بعلبكي في" النهار": دخل مشروع قانون "الفجوة المالية" مرحلة شديدة الحساسية، ليس فقط لأنه يشكل الإطار التشريعي الأول لمحاولة توزيع خسائر الانهيار المالي، بل لأن
النقاش حوله انتقل من العلن إلى الغرف المغلقة، حيث تتقاطع الحسابات السياسية مع الوقائع المالية القاسية. فبين ضغط دولي يدفع نحو إقرار القانون بأي ثمن، ومحاولة حكومية لتدوير الزوايا، يقف القطاع المصرفي أمام معادلة وجودية: إما قانون قابل للتطبيق يعيد بناء الثقة، أو تشريع يحمّله التزامات تفوق قدرته ويقضي نهائياً على ما تبقى من النظام المالي. في هذا السياق، وفي محاولة لتقريب وجهات النظر بين الدولة والمصارف حول مشروع القانون، عقد لقاء بعيداً عن الإعلام جمع إلى مستشار وزير المال سمير حمود، عدداً من النواب، وبعض المقربين من رئيس الحكومة نواف سلام. النقاش كان صريحاً، وتركز على ضرورة تمرير القانون من حيث المبدأ، لكن مع التشديد على واقعية الأرقام. حمود شدد على أن الإبقاء على المصارف في حالة "مصارف زومبي" عاجزة عن التمويل وعن تحريك الاقتصاد لم يعد خيارا، وأن معالجة الفجوة المالية باتت حتمية. لكن في المقابل، حذر من أن النسخة الأخيرة من المشروع لا تشكل حلاً، بل تعمق الأزمة، ولا سيما من زاوية حقوق المودعين وقدرة النظام على التنفيذ.
الاعتراض الأساسي الذي طرح في اللقاء يتعلق بحجم الكلفة. فبينما جرى التداول سابقاً برقم يقارب 20 مليار دولار لسداد الودائع ما دون الـ 100 ألف دولار، تبين وفق الحسابات الواقعية أن هذا الرقم غير قابل للتحقيق. فحتى في السيناريو الأكثر تفاؤلاً، أي جمع كل السيولة المتاحة، وبيع كامل الأصول، واليوروبوندز، فإن المبلغ
الأقصى الذي يمكن تأمينه لا يتجاوز 7 مليارات دولار إضافة إلى الاحتياطي الالزامي الذي يقدر بنحو 9 مليارات دولار بما مجموعه 16 مليار دولار.
هذا التقدير لا يصدر فقط عن المصارف، بل أكده أيضاً حاكم
مصرف لبنان، الذي أقر بأن معظم المصارف غير قادرة على تحمل أكثر من 2 إلى 3 مليارات دولار، وأن تحميلها أعباء إضافية سيؤدي إلى انهيارها بدل إعادة هيكلتها. ورغم ذلك، بدا أن الاتجاه السياسي يسير نحو تحميل المصارف القسم الأكبر من الخسائر، في تجاهل تام لقدرتها الفعلية.
أحد محاور الخلاف يتمحور حول الاحتياطي الإلزامي. فوفق طرح جمعية المصارف، هناك نحو 9 مليارات دولار يمكن استخدامها، لكن مصرف
لبنان يرد بأن هذا الاحتياطي غير قابل للتسييل، وأنه يحتاج إلى مساهمة من الدولة لا تقل عن 5 أو 6 مليارات دولار تسدد على أربع سنوات ليتمكن من تغطية حصته.
توازياً، يطرح خيار بيع
الذهب، لكن من دون أي قرار سياسي واضح. فالذهب موضوع أساساً كضمانة لإصدارات مالية مستقبلية، وليس مخصصاً لدفع الودائع. وقد عبر نواب حضروا النقاش عن رفضهم القاطع لبيع الذهب من أجل تسديد الـ100 ألف دولار، ما يجعل هذا الخيار عمليا خارج التداول.
أما الحديث عن بيع أصول مثل شركة طيران
الشرق الأوسط أو الكازينو أو العقارات، فيبقى مرتبطاً بتسديد سندات مستقبلية (Asset-backed securities)، وليس بإعادة الودائع، ما ينسف فكرة الاعتماد عليها كمصدر تمويل مباشر.
حتى الطروحات التي أخذت طابعاً إنسانياً، مثل احتساب ودائع بعض المودعين بالليرة
اللبنانية على سعر 1500 ليرة وضمانهم حتى 100 ألف دولار، وُصفت بأنها عادلة من حيث المبدأ، لكنها تزيد الكلفة من دون أي تحديد لمصادر التمويل. وهنا يبرز جوهر الاعتراض: لا يمكن تشريع حماية من دون تمويل. المشكلة الأعمق، كما خلص النقاش، أن الحكومة، رغم طابعها التكنوقراطي، تطرح قانوناً لا تملك أدوات تطبيقه. فلا الدولة تحدد مساهمتها، ولا مصرف لبنان يملك القدرة، ولا المصارف قادرة على تحمل أعباء تفوق أصولها. وفي غياب هذا الوضوح، فإن إقرار القانون سيؤدي إلى نتيجة خلاصتها ضرب ما تبقى من ثقة، وتعريض القطاع المصرفي لأزمة سيولة قاتلة، تجعل أي تعامل معه مستحيلاً.
وكتب بسّام صرّاف في" النهار": في لبنان، لم يُطرح ما يُسمّى «الانتظام المالي» يومًا كمسار إصلاحي متكامل يعالج جذور الأزمة، بل جرى تسويقه منذ انهيار النظام المالي عام 2019 كأمر واقع لا بديل عنه. خطاب تقني مُنمّق، تتقاسمه الدولة والمصارف ومصرف لبنان، يُقدَّم للرأي العام بوصفه ضرورة حتمية، فيما يخفي في جوهره خيارًا سياسيًا واضحًا: نقل كلفة الانهيار من مراكز القرار والمسؤولية إلى جيوب المودعين، وكأن الخسارة تحوّلت من نتيجة فشلٍ بنيوي إلى «حق مكتسب» للنظام نفسه.
الانتظام المالي الحقيقي لا يتحقق عبر شطب الودائع أو تحميلها الجزء الأكبر من الخسائر، بل عبر مقاربة شاملة تعيد الاعتبار لمفهوم العدالة المالية. وفي صلب هذه المقاربة، تبرز مجموعة مبادئ أساسية:
•تحميل المسؤوليات لمن راكم الأرباح في النظام المالي خلال سنوات الازدهار، لا لمن أودع تعبه ومدخراته.
•مساءلة شفافة للدولة، ومصرف لبنان، والمصارف التجارية، بعيدًا عن المعالجات الانتقائية أو التسويات السياسية.
•وضع آلية واضحة لاسترداد الأموال، تضمن عدم تحميل الحلقة الأضعف كلفة الإفلاس، وتُعيد الاعتبار لدولة القانون.
أي إعادة هيكلة لا تنطلق من هذه المبادئ تتحول تلقائيًا إلى عملية نقل خسائر، لا إلى إصلاح.
المسار المعتمد اليوم يسير في الاتجاه المعاكس. فالحلول المطروحة تُختصر بإجراءات تصيب المودعين مباشرة، وتُغلَّف بخطاب تقني يوحي بالحتمية، فيما هي في جوهرها إدارة صامتة للانهيار لا أكثر. النتيجة واضحة: استنزاف مباشر للمدخرات، تآكل في الثقة، انكماش اقتصادي مستمر، وتراجع غير مسبوق في دور القطاع المصرفي كوسيط ائتماني..
تجارب دولية عدّة، أبرزها اليونان بعد أزمة 2010، تُظهر أن حماية حقوق المودعين ومحاسبة القطاع المصرفي كانت في صلب أي مسار تعافٍ جدّي، رغم قسوته. تجاهل هذه المبادئ لم يؤدِّ يومًا إلى استقرار، بل إلى إطالة أمد الأزمات وتعميق الكلفة الاجتماعية. لبنان، من دون مقاربة مشابهة، يعيد إنتاج أزمة الثقة مع كل محاولة إصلاح شكلية.
استعادة الودائع ليست مسألة تقنية أو ظرفية، بل شرط تأسيسي لإعادة بناء العقد المالي بين الدولة والمواطنين. اللبناني لا يطالب بامتياز، بل بحق بديهي: ألّا يُموَّل إفلاس الدولة من مدخراته، وألّا تُسمّى هذه الإجراءات إصلاحًا فيما آثارها ماثلة في كل تعامل مالي. أي خطة لا تضع حقوق المودعين في صلب أولوياتها، ولا تُرفق بخطوات إصلاحية واضحة ومساءلة فعلية، ليست خطة تعافٍ، بل إدارة منظّمة للانهيار.