"لو كنتُ مكان الرئيس ميشال عون لتنحّيْت". عبارة-مفتاح وردت خلال الأيام القليلة الماضية على لسان كلّ من رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، بصورةٍ فاجأت أقرب المقرَّبين منهما، بعدما كان الاعتقاد السائد بأنّ القيادات المسيحيّة ترفض السير بأيّ "طرحٍ" يدعو الرئيس إلى الاستقالة.
صحيحٌ أنّها ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها تناقل تصريحاتٍ تدعو عون إلى الاستقالة، بعدما كان رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط "المُبادِر" إلى هذا الأمر، قبل أسابيع طويلة، قبل أن "يتراجع" بنفسه عن ذلك، على قاعدة أنّه "خط أحمر" لا يجوز الاقتراب منه، طالما أنّ "الضوء الأخضر" المذهبي والطائفي غير متوافر، وطالما أنّ البطريرك الماروني بشارة الراعي رافضٌ للأمر بالمُطلَق.
لكنّها تتّخذ بُعداً استثنائيّاً هذه المرّة، لكونها تصدر عن قياداتٍ مسيحيّة من الصفّ الأول، بعضها كان حتى الأمس القريب يرفض أيّ بحثٍ باستقالة رئيس الجمهورية أو تنحّيه، لأسبابٍ واعتباراتٍ متفاوتة، بعضها "مبدئيّ"، وبعضها الآخر مرتبطٌ بانعدام "المصلحة" السياسية من أيّ استقالةٍ ستتيح للبرلمان الحاليّ أن ينتخب رئيساً جديداً، من الخطّ السياسيّ نفسه لعون، طالما أنّ "حزب الله" يمتلك مفتاح الأكثرية فيه، وبالتالي يتحكّم به.
أكثر ممّا تحمل!
لكن، قبل التمادي في التحليل والاستنتاج، وتفسير الأبعاد والتأويلات الممكنة لكلام فرنجية وجعجع غير المسبوق، ثمّة فرضيّة لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار، ومفادها أنّ تصريحات الرجليْن حُمّلت أصلاً أكثر بكثير ممّا تحتمل، وفُسّرت بغير المقصود منها، ما أدّى إلى كلّ "اللغط" السياسيّ الحاصل حولها.
هنا، يشير العارفون إلى أنّ فرنجية الذي كان "السبّاق" في الحديث عن "التنحّي"، جاء كلامه في إطار مقابلةٍ تلفزيونيّة، وردّاً على سؤالٍ إعلاميّ طُرِح عليه، بمعنى أنّه لم يأتِ في إطارٍ "مُعَدّ ومُبرمَج"، كما تفترض "معركة" بهذا الحجم، وهو تحدّث بمنطق "الخصومة" مع عون، ومن خلفه رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، ولكن الخصومة "المضبوطة" إن جاز التعبير، بحدودٍ لا يزال يعمل وفق مندرجاتها.
أما جعجع، فجاء موقفه هو الآخر في سياق "دردشة إعلاميّة"، ورداً على سؤالٍ طُرِح عليه حول ما إذا كان يوافق فرنجية في ما ذهب إليه، علماً أنّ "الحكيم" الذي حاول تجنّب الردّ صراحةً على الكثير من الأسئلة، انسجاماً مع "فرضيّة" أنّ الناس سئمت السجالات، حاول أن يقارب المسألة من الجانب "المبدئيّ" نفسه، وربما "الأخلاقيّ" أيضاً، للقول إنّه لو كان مكان عون، لتحمّل المسؤوليّة كاملةً، وانسحب ببساطة من المشهد نتيجة "الكوارث".
دعاية انتخابيّة!
أكثر من ذلك، يضع العارفون كلام كلٍّ من فرنجية وجعجع السابق ذكره، في إطار "الدعاية الانتخابيّة" التي أراداها لنفسيْهما، عبر الإيحاء بأنّهما لو وُضِعا مكان عون، لتصرّفا بطريقةٍ مغايرة، تتلقّف أكثر ما يريده الشارع، وهما اللذان يعتبران نفسيها "مرشحيْن طبيعيّيْن" للرئاسة خلفاً لعون، بعد "الإطاحة" بمنافسهما الأول الوزير السابق جبران باسيل، بفعل العقوبات الأميركيّة التي فُرِضت عليه أخيراً.
ولكن، أبعد من "الرسائل" السياسيّة خلف مثل هذا الكلام، يؤكد المتابعون أنّه يبقى "محدود السقف ومضبوطاً"، أقلّه حتى إثبات العكس، بمعنى أنّه لن يتجاوز إطار "الضغط السياسيّ" في أفضل الأحوال، وهو لا يمكن أن يرتقي إلى مستوى "المعركة" الجدّية، التي يبدو أنّ هناك توافقاً جماعياً على أنّ أوانها لم يَحِن بعد، رغم كلّ الإيحاءات المخالفة التي يتمّ بثّها وإرسالها عن عمد، وسابق تصوّر وتصميم.
وقد لا يكون "تفصيلاً" في هذا الإطار، استخدام كلٍّ من جعجع وفرنجية لمنطق "لو كنت مكان عون" في حديثهما، من دون توجيه أيّ دعوةٍ مباشرةٍ وصريحةٍ له بالاستقالة أو بالتنحّي، علماً أنّ هناك من يعتقد أنّ مثل هذه الدعوة قد تُحسَب سلباً عليهما، خصوصاً إذا ما فُسّرت في مكانٍ ما "تفريطاً" بالموقع المسيحيّ الأول، و"استضعافاً" له، بعدما تحوّل برأي البعض إلى مجرّد "موقع رمزيّ" من دون صلاحيّات تتيح تحميله المسؤوليّات كما هو حاصل.
رأى البعض في كلام جعجع وفرنجية "تحوّلاً نوعيّاً" في مقاربة مسألةٍ شائكة كالدعوة إلى استقالة رئيس الجمهورية، التي كانت من "المحظورات" سابقاً، حتى أنّ "خصوم" الرئيس الأسبق إميل لحود، على ما شهده "عهده" من ويلات وكوارث و"قطيعة"، تجنّبوها. إلا أنّ الواقع يقول إنّ الدعوات التي أطلِقت "إعلاميّة" ليس إلا، بل عبارة عن "ملهاة" لملء "الوقت الضائع"، حتى إشعارٍ آخر...