ينظر كثير من الآباء إلى عزلة أطفالهم باعتبارها مجرد مرحلة عابرة أو سلوك مؤقت يمكن تجاوزه مع مرور الزمن، لكن الدراسات الحديثة تكشف أن الأمر أعقد بكثير، وأن للوحدة في سنوات العمر الأولى آثارًا ممتدة قد ترافق الإنسان لعقود طويلة.
دراسة دولية حديثة نشرتها "جمعية الطب الأميركية" حذّرت من أن الوحدة في الطفولة ليست محصورة في تأثيراتها على تلك المرحلة العمرية فقط، بل ترتبط بتراجع أسرع في القدرات الإدراكية وزيادة خطر الإصابة بالخرف في منتصف العمر وما بعده.
علاقة ثابتة رغم تغيّر الظروف
وأوضح الباحثون أن العلاقة بين الوحدة المبكرة وتراجع القدرات الإدراكية بقيت قائمة حتى بعد الأخذ بعين الاعتبار مستوى الوحدة في البلوغ، وحتى عند المشاركين الذين لم يبلغوا لاحقًا عن شعور بالعزلة الاجتماعية.
بمعنى آخر، الطفل الذي عانى من الوحدة، حتى وإن أصبح بالغًا منفتحًا اجتماعيًا، يبقى أكثر عرضة لمشكلات إدراكية مقارنة بغيره.
كيف تترك الوحدة بصمتها على الدماغ؟
الفريق البحثي أشار إلى أن آثار الوحدة في الطفولة لا تقتصر على الجانب النفسي، بل تمتد إلى عوامل بيولوجية عميقة، من بينها:
- الإجهاد النفسي المزمن الذي يرفع مستويات الالتهاب في الجسم ويؤثر سلبًا على صحة الدماغ.
- ضعف بناء المهارات الاجتماعية والمعرفية خلال سنوات النمو، وهو ما يقلل ما يُعرف بـ"الاحتياطي المعرفي" (Cognitive Reserve)، أي قدرة الدماغ على التعويض عند التقدم في العمر.
- اضطراب أنماط النوم والهرمونات في سن مبكرة، مما ينعكس على الوظائف الإدراكية في مراحل لاحقة.
نتائج مستندة إلى بيانات واسعة
استندت الدراسة إلى بيانات نحو 13,500 مشارك جُمعت بين عامي 2011 و2018 ضمن "الدراسة
الصينية الطولية للصحة والتقاعد". وأكد الفريق البحثي أن غياب علاجات فعّالة لإبطاء تطور الخرف يجعل من الضروري تحديد عوامل الخطر المبكرة والقابلة للتعديل، بهدف وضع استراتيجيات وقائية تحدّ من عبء المرض.
مسؤولية الأسرة والمدرسة
هذه النتائج تضع الأسرة والمدرسة أمام دور محوري في الوقاية، إذ يشدد الباحثون على:
- تشجيع الأطفال على تكوين صداقات منذ الصغر وتجنب تركهم في عزلة طويلة.
- تعزيز الأنشطة الجماعية في الصفوف لتطوير مهارات التفاعل الاجتماعي.
- رصد العلامات المبكرة للعزلة أو الانسحاب والتدخل السريع بالدعم النفسي والاجتماعي.
- إشراك الأطفال في نشاطات مجتمعية ورياضية تعزز شعورهم بالانتماء.
خلص الباحثون إلى أن الوحدة في الطفولة تُعد عامل خطر مستقل لتراجع القدرات العقلية والخرف في مراحل لاحقة، مما يجعل معالجة الظاهرة في وقت مبكر ضرورة ملحة للصحة النفسية والعقلية على المدى
الطويل.
وقد شارك في هذه الدراسة باحثون من جامعة كابيتال الطبية في
بكين، وجامعة لا تروب في ملبورن، وكلية الصحة العامة بجامعة بوسطن، وكلية الطب بجامعة هارفارد، وجامعة إديث كوان، وجامعة تشيجيانغ.