شكّل حادث استهداف 3 طائرات مسيّرة منشأة عسكرية تابعة لمجمع الصناعات الدفاعية في أصفهان، في نهاية شهر كانون الثاني الماضي، تطوّراً غير مسبوق في إطار ما سمّي "حرب الظل" أو "الحرب الخفيّة" بين "إسرائيل" وإيران، والتي بدأت منذ فترة طويلة.
وفي السنوات الماضية، تعرّضت إيران لاعتداءات وهجمات متنوعة، عسكرية وأمنية واستخبارية وسيبرانية، وقفت "إسرائيل" وراء معظمها، بحسب مصادر إيرانية وغربية وإسرائيلية، وتسبّبت بخسائر "معتبرة"، فضلاً عن الطابع الدعائي والسياسي لهذه الهجمات.
وأثارت الهجمة الإسرائيلية الأخيرة على المنشأة العسكرية في أصفهان مخاوف دولية وإقليمية من تطوّر هذه الحرب الخفيّة إلى حرب مباشرة، تبدأ بقصف إسرائيلي (مفترض) لمنشآت إيران النووية (نطنز وأصفهان وبوشهر وأراك وفوردو وغيرها)، وخصوصاً مع وجود حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة التي تعاني أزمة داخلية خطرة، فهل تُقدِم "إسرائيل" على خطوة جنونية كهذه بعد طول تردّد وتخوّف وحسابات دقيقة، أم أن عوامل كبح أي جموح إسرائيلي عدواني لا تزال على حالها، كما كانت طيلة السنوات الماضية، بل ربما زاد تأثيرها أخيراً؟!
لماذا صعّدت "إسرائيل" تهديداتها لإيران؟
لا شك في أن "إسرائيل" تواجه منذ عقود مأزقاً كبيراً في تعاملها السياسي والميداني مع إيران، التي شكّلت منذ العام 1979 تحدياً خطراً، وربما وجودياً، للكيان الإسرائيلي، الذي بات يستنجد بما يسمّى "العالم الحر"، وهو الذي كان قد اعتاد "معالجة" التهديدات بنفسه، ولو في ظل حماية أميركية كاملة.
لكنَّ "إسرائيل" لم تستطع تنفيذ تهديداتها بقصف المنشآت النووية الإيرانية، وهي التهديدات التي لم تتوقف منذ بداية القرن الحالي، بسبب خوفها من الردود الإيرانية، المباشرة وغير المباشرة، على أي قصف إسرائيلي شامل أو محدود، كما من التداعيات المحتملة على مستوى المنطقة عموماً، والتي لا تضمن "إسرائيل" أنها ستكون قادرة على استيعابها أو حتى منعها، كما فعلت سابقاً بعد قصفها محطات أو مراكز أبحاث في العراق وسوريا (في العامين 1981 و2007)، بزعم أنها منشآت "عسكرية الطابع، وتهدف إلى صنع قنابل نووية"!
أما التصعيد الإسرائيلي الكلامي الأخير حيال إيران، والتهديدات العلنية التي أطلقها رئيس وزراء الكيان بأنه سيزيل أي خطر يهدّد كيانه من إيران، وسيمنعها من تطوير سلاح نووي مهما كلّف الأمر، فيعود أساساً إلى التقارير الأميركية التي لم تنفها الوكالة الدولية للطاقة الذريّة حول اكتشاف ذرّات يورانيوم مخصّبة في منشأة فوردو بنسبة 83.7%، وهي قريبة جداً إلى النسبة اللازمة لصنع قنبلة نووية، أي 90% أو 95%، لكن إيران نفت هذا التوجه مراراً وتكراراً، مع إلماحها إلى احتمال رفع نسبة التخصيب في أجهزة الطرد المركزي داخل منشآتها النووية إلى 60% فقط.
ويمكن التوقف في هذا السياق أيضاً عند القلق الإسرائيلي الجديّ من احتمال تسليم روسيا طائرات "سوخوي- 35" الحديثة ومنظومة الدفاع الجوي المتطورة "أس 400" لإيران في وقت قريب، كما ادّعت تقارير أميركية، وبما يشكّل عائقاً جدياً أمام أي هجمات إسرائيلية محتملة ضد المنشآت الإيرانية النووية.
أما الأسباب الأخرى للهستيريا الإسرائيلية حيال إيران، فتشمل تعاظم المأزق الداخلي لحكومة الكيان، بسبب التعديلات القضائية، بموازاة تصاعد فعاليات المقاومة الفلسطينية، العسكرية والمدنية، التي كشفت عجزاً أو قصوراً فاضحاً لدى قوات الاحتلال عن مواجهتها.
هل تهاجم "إسرائيل" إيران فعلاً؟
طيلة السنوات الماضية، وخلال وجوده على رأس حكومة الكيان الإسرائيلي، لم يكلّ نتنياهو ولم يملّ من توجيه الاتهامات الزائفة إلى إيران، والتهديد بأنه سيوجّه ضربات مدمّرة إليها إذا ما واصلت برنامجها النووي العسكري، وقبل أن تتمكن من صنع قنبلة نووية تهدّد بها كيانه المحتل.
وقد "تفنّن" نتنياهو في أساليب حربه النفسية على إيران، من أجل ثنْيها عن متابعة برنامجها النووي، سواء عبر "كشفه" الاستعراضي لأهداف هذا البرنامج من منبر الأمم المتحدة في نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2018، أو من خلال تأكيد الجاهزية الكاملة لـ"جيشه" لتدمير المنشآت الإيرانية النووية، حتى إنه وجّه تهديداته مرّة باللغة الفارسية كي يُحدث تأثيراً أكبر لدى الشعب الإيراني، وبما يدفع إيران إلى التراجع وإعادة الحسابات. وقد باءت كل مساعيه وتهديداته الجوفاء بالفشل الذريع حتى تاريخه.
في المقلب الآخر، هدّد رئيس المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد، أخيراً، بكشف أكاذيب نتنياهو بشأن الجاهزية العسكرية ضد إيران. وقال في تغريدة في "تويتر": "ما لم يكفّ نتنياهو عن الكذب بشأن الجاهزية في الموضوع الإيراني، فسأضطر إلى شرح كل الثغرات والإشارة إلى الإهمال الذي كان مسؤولاً عنه حتى قمنا بتغييره"، في إشارة إلى خسارة نتنياهو الانتخابات وصعود حكومة لابيد – بينيت عام 2021، قبل أن يعود في 2022.
إن احتمالات شنّ الكيان الإسرائيلي هجوماً عسكرياً واسع النطاق ضد المنشآت النووية الإيرانية أو ضد إيران عموماً، ضعيفة للغاية، سواء في القريب العاجل، كما تشيع مصادر إسرائيلية وأميركية وعربية، أو حتى في المدى المنظور والمتوسط، كما تكشف القراءة المتعددة الزوايا للإستراتيجية الإسرائيلية تجاه دول المنطقة وتأثّرها بالعوامل والتحوّلات الكبرى داخل كيان الاحتلال وفي الإقليم والعالم، فما العوامل أو العوائق التي تكبح "إسرائيل" عن شنّ هجوم "مضمون النتائج والعواقب" على إيران، والذي اعتاد المسؤولون الإسرائيليون التهديد به منذ مطلع هذا القرن؟
تتصرّف "إسرائيل" وفق إستراتيجية دفاعية (استباقية) تهدف إلى ضمان وجودها، ودرء التهديدات وإرجائها لضمان فترات طويلة من الهدوء، بالتزامن مع جهود عسكرية وسياسية استباقية. إنه مبدأ أساسي للأمن القومي يجسّد رغبة "إسرائيل" في عدم خوض معارك وتأجيل الصراعات بقدر المستطاع. الجودة على الكميّة.
"إسرائيل" بطبيعتها في وضع غير مؤاتٍ مقارنة بأعدائها. لذلك، يجب أن تعوّض ذلك بتفوّقها النوعي. نقل المعركة إلى أراضي العدو والسعي لتحقيق النصر في الحرب. تقليص مدة القتال. يشمل ذلك الحاجة إلى الحدّ من الضرر الذي يلحق بالشعب وبالبنية التحتية للبلاد نتيجة للقتال، وتحقيق أهداف المعركة في أقصر وقت ممكن. حدود قابلة للدفاع عنها. وتعتبر الروح القتالية للأمّة والإيمان بعدالة قضيتها مكوّنين أساسيين لإستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي.
لكن بات واضحاً، وبعد سلسلة طويلة من الحروب والمعارك الإسرائيلية الفاشلة وغير الحاسمة، سواء داخل فلسطين أو في المحيط الإقليمي، أنَّ عطباً جوهرياً قد أصاب هذه الإستراتيجية التي ارتكزت على التفوّق النوعي، والحرب الاستباقية والسريعة، والقتال في أرض العدو، ومنعه من تحقيق التوازن، وترسيخ مبدأ الردع الذي يؤجّل الحرب، ولكنه لا يمنعها بالمطلق.
دخلت "إسرائيل" عام 2023 وهي تواجه مجموعة من التهديدات الإستراتيجية على عدة مستويات؛ فكما أوضح التقدير الإستراتيجي (الأخير) لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي في مقدّمته، تواجه "إسرائيل" على المستوى الدولي صراعاً محتدماً بين الولايات المتحدة الأميركية والصين على التأثير في الخارطة الدولية، إضافة إلى الحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا، ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، ووصولها إلى حد يمنع "إسرائيل" من التزامها سياسة الحياد.
هذه التهديدات تقلّل هامش المناورة الإسرائيلية في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدبلوماسية، وتجعلها مُطالبة بإحداث تغيير إستراتيجي في سياستها الخارجية السائدة حالياً، وخصوصاً أن التهديد الخارجي الأخير مرتبط بوصول إيران إلى دولة شبه نووية، كما يتحدث التقدير الإستراتيجي، وأن ذلك معناه انهيار حقيقي لأسس الأمن القومي الإسرائيلي، المبني على احتكار القوّة النووية في الشرق الأوسط، كقوّة ردع إستراتيجية.
ولكن الإشكالية الإسرائيلية تكمن في قدرة "إسرائيل" على مواجهة المشروع النووي الإيراني، سواء من خلال التجهيز لخيار عسكري لتدمير المشروع النووي الإيراني، كما أمر بذلك رئيس الوزراء السابق نفتالي بينت قبل عام، أو من خلال إقناع الأميركيين والأوروبيين بتشديد العقوبات الاقتصادية على إيران، أو التأثير في أي اتفاق بين الأميركيين والدول الخمس مع إيران بما يتناسب مع الأمن القومي الإسرائيلي.
بكلام أكثر دقّة، فإن قادة الكيان الإسرائيلي يواجهون معضلة مركّبة ومعقّدة في ما يتعلق بتدمير أو إزالة المشروع النووي الإيراني، لكونها تتضمن أبعاداً إستراتيجية وسياسية وعملانية متعددة، من بينها:
- أولاً: سيتسبّب أي هجوم عسكري إسرائيلي على إيران بردود قوية وموجعة من إيران وحلفائها في المنطقة، قد لا تستطيع "إسرائيل" تحمّل نتائجها على مختلف المستويات، البشرية والمادية والمعنوية، وصولاً إلى المستوى الإستراتيجي، في حال تصاعد المواجهة المفترضة وتوسّع ساحاتها.
- ثانياً: على فرض نجاح أي ضربة عسكرية إسرائيلية (منفردة أو مشتركة مع القوات الأميركية في المنطقة) في تدمير كل محطات المشروع الإيراني النووي وأقسامه (وهو احتمال ضعيف بسبب توزّع مراكز المشروع وتحصينها وطرق إخفائها المتقنة)، فإن ضربة كهذه لن تُنهيه بالكامل، بل قد تؤخّره عدة سنوات فقط، وربما يعود هذا البرنامج بطابع عسكري، كما يتوقع الإسرائيليون وحلفاؤهم الأميركيون أنفسهم.
- ثالثاً: إن أي هجوم إسرائيلي واسع ومباشر على إيران سيؤدّي إلى تداعيات خطرة ستصيب شظاياها القوات الأميركية المتمركزة في دول عديدة في الدرجة الأولى، وستطال دولاً حليفة أو صديقة للولايات المتحدة و"إسرائيل" في الدرجة الثانية؛ أي أن هجوماً كهذا قد يؤدّي إلى تصدّع أو ربما انهيار المشروع الأميركي في المنطقة، الذي يحتاج إلى ركائز سياسية ثابتة (دول حليفة مستقرة) وقواعد عسكرية واستخبارية لا تزال ضرورة قصوى لاستمراره، وربما لعقود قادمة.
- رابعاً: إن تمكّن "إسرائيل" من شن هجمات عسكرية وأمنية وسيبرانية محدودة ضد البرنامج النووي الإيراني، مثل الهجمة الأخيرة بطائرات مسيّرة على المجمع العسكري الصناعي في أصفهان، وقبلها اغتيال عدد من العلماء الإيرانيين العاملين ضمن البرنامج النووي، وسرقة ملفات متعلقة بالبرنامج قبل أعوام... إن كل تلك الهجمات لا يمكن البناء عليها لتقدير أن "إسرائيل" باتت قادرة على استكمال مسارها الهجومي ضد إيران، وباعتبار محدودية ردود الفعل الإيرانية على الهجمات الإسرائيلية السابقة.
- خامساً: في المقابل، يمكن القول إن إيران ربما تتمكن من صد أو إفشال أي هجمات جوية أو صاروخية إسرائيلية مفترضة، حتى ولو بمشاركة قوّات أميركية، نظراً إلى التنامي المذهل في القدرات الإيرانية العسكرية كماً ونوعاً، وفي مجالات الدفاع والهجوم، كما تقرّ المصادر العسكرية والاستخبارية الأميركية والإسرائيلية على السواء، ناهيك بالردود الإيرانية المدمّرة التي تم إعدادها مسبقاً، والتي قد تستهدف أوّلاً مفاعل ديمونا النووي** ومستوطنات إسرائيلية حيوية، مثل "تل أبيب"، بحسب التصريحات والمواقف الصادرة عن رأس القيادة الإيرانية والجهات العسكرية العليا.
سادساً: كذلك، قد يفرض الاتفاق الإيراني السعودي المستجد الذي عُقِدَ أخيراً برعاية صينية على "إسرائيل" إعادة حساباتها في ما يخص الهجوم على إيران، وربما أبعد منها، لتشمل مسارات التطبيع الإسرائيلي مع بعض دول المنطقة، ومنها السعودية، بل إنَّ هذا التحوّل السعودي الإيراني، إن كُتب له النجاح، سيدفع الكيان الإسرائيلي إلى تغيير حقيقي في أولوياته وخياراته، وبما لا يلائم توجهات القيادة الإسرائيلية المتطرفة الحاكمة اليوم ومصالحها.
(الميادين نت)