بينما كانت
موسكو تتحضّر لجولة تفاوضية جديدة مع كييف، جاءت العملية الأمنية الواسعة لتضرب عمق أراضيها، مستهدفة منشآت عسكرية استراتيجية تبعد آلاف الكيلومترات عن الحدود
الأوكرانية. ورغم أن تفاصيل الهجوم لم تُكشف بالكامل بعد، غير أن اتساع نطاقه وخطورة أهدافه النوعية وضعاه مباشرة في خانة الرسائل السياسية المعقدة، لا في خانة التصعيد العسكري التقليدي.
في هذا الإطار، تفيد مصادر مطلعة أن ما يميّز هذه العملية تحديداً هو أن جزءاً أساسياً من التنفيذ انطلق من داخل الأراضي الروسية ذاتها، ما يعكس انتقال أساليب المواجهة إلى مرحلة أكثر تعقيداً وتداخلاً أمنياً. وبناءً على ذلك، تطرح دوائر متابعة علامات استفهام إضافية حول حجم الدور الذي من الممكن أن يكون الحلف
الأطلسي قد لعبه في توفير الغطاء اللوجستي والمعلوماتي الدقيق للعملية، خصوصاً أن هذا النمط من الهجمات سبق أن تكرر في مسارح مختلفة خلال الفترة الأخيرة.
في موازاة ذلك، تتقاطع هذه التطورات مع السياق السياسي الذي تعمل عليه
إدارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب منذ عودته إلى
البيت الأبيض. إذ تفيد مصادر دبلوماسية أن الإدارة تتحرك على أكثر من جبهة في محاولة لتحصيل إنجازات تفاوضية سريعة، سواء في الملف الأوكراني أو في المفاوضات النووية مع
إيران، بهدف تعزيز موقعها السياسي داخلياً وسط أزمات اقتصادية وسياسية متصاعدة.
وبينما تمضي إدارة
ترامب في الجمع بين التصعيد العسكري ضد موسكو والضغوط القصوى على
طهران، تؤكد مصادر مطلعة على سير المفاوضات النووية أن
واشنطن تحاول توظيف أدوات متعددة، تبدأ بالعقوبات الاقتصادية ولا تنتهي باستخدام التقارير الفنية الصادرة عن
الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي أشارت في أكثر من مناسبة إلى امتلاك إيران القدرات التقنية الكافية لإنتاج رؤوس نووية متى قررت ذلك.
وبحسب هذه المصادر، فإن إدارة ترامب تسعى إلى استثمار هذه التقارير كورقة ضغط إضافية تتيح لها دفع طهران إلى اتفاق سريع يتلاءم مع الحسابات الأميركية الداخلية. ومع ذلك، تشير مصادر متابعة إلى أن طهران لا تزال تحتفظ بهوامش مناورة محسوبة، تظهر مرونة في بعض التفاصيل التقنية المرتبطة بالتخصيب، لكنها في المقابل تتمسك بالحصول على مكاسب تفاوضية إضافية قبل توقيع أي تسوية نهائية.
في هذا الوقت، لا تنفصل هذه الملفات الخارجية عن الضغوط المتصاعدة التي تواجه إدارة ترامب في الداخل. إذ إنّ الإدارة شهدت منذ الأسابيع الأولى من ولايتها الثانية تغييرات متلاحقة في الفريقين الأمني والاقتصادي، بينما تعثرت مبادراتها الاقتصادية الكبرى في مواجهة عقبات قانونية واشتباكات سياسية مع المؤسسات التشريعية، وهو ما دفع البيت الأبيض إلى البحث عن إنجازات سريعة على الساحة الدولية تعوّض الإرباك الداخلي.
وبحسب تقديرات سياسية، فإن التصعيد الأمني الأخير ضد
روسيا جاء في توقيت بالغ الحساسية لكل من موسكو وطهران، اللتين تسعيان إلى إدارة معاركهما التفاوضية بما يضمن لهما تحسين شروط التفاوض مع
الولايات المتحدة. في المقابل، تواصل واشنطن وحلفاؤها تصعيد أدوات الضغط عبر حزمة واسعة من الوسائل التي تمتد من
العقوبات الاقتصادية إلى العمليات الأمنية المعقدة.
وفي ضوء ذلك، تفيد مصادر دبلوماسية مطلعة أن موسكو تميل إلى اعتماد رد انتقائي مركّز يصيب قطاعات حيوية في العمق الأوكراني، من دون أن تذهب نحو تصعيد شامل قد يطيح بالمسار التفاوضي كلياً. إذ تدرك القيادة الروسية أن انفجاراً واسعاً قد يمنح كييف وحلفاءها فرصة للتخلص من الضغط السياسي الذي فرضته المعادلة الدولية الراهنة.
بهذا المشهد المتشابك، تتقاطع خطوط التصعيد مع مسارات التفاوض في لحظة دقيقة، فيما تواصل القوى الدولية إدارة صراعاتها على الحافة، ضمن سباق مفتوح على تثبيت المواقع قبل الوصول إلى لحظة التسويات الكبرى.