أعادت الحرب الإيرانية - الإسرائيلية شبح التسرب النووي إلى الواجهة خصوصاً أن الضربات الإسرائيلية التي تستهدف إيران تهدف لضرب المنشآت النووية بينما هناك مخاوف من إمكانية استهداف إيران لمنشأة ديمونة النووي في إسرائيل.
المشهد الحالي أخذ الذاكرة إلى حوادث عديدة مثلت "كوارث نووية" في العالم.. فما هي هذه الحوادث؟
تشيرنوبل (أوكرانيا) - 1986
في 26 نيسان 1986، وقع انفجار في المفاعل رقم 4 بمحطة تشيرنوبل النووية شمال
أوكرانيا، التي كانت آنذاك جزءاً من الاتحاد السوفيتي، ما أدى إلى تسرّب كميات كبيرة من المواد المشعة إلى الغلاف الجوي.
وبحسب الرابطة العالمية للطاقة النووية، لقي عاملان حتفهما فوراً، وتوفي 29 آخرون خلال الأسابيع التالية نتيجة الإصابة بمتلازمة الإشعاع الحادة، من بين 134 شخصاً نُقلوا لتلقي العلاج بعد تعرضهم لإشعاع مرتفع.
أعلنت السلطات السوفيتية إجلاء أكثر من 115 ألف شخص، بينهم سكان مدينة بريبيات، ثم توسعت عملية الإجلاء لاحقاً لتشمل نحو 350 ألفاً. وفُرضت "منطقة محظورة" بقطر 30 كيلومتراً حول موقع المفاعل.
ووفقاً لمركز الدراسات النووية الفرنسي وهيئة الطاقة النووية السويدية، امتد التلوث الإشعاعي إلى أجزاء واسعة من
أوروبا، منها السويد وألمانيا، وساهم في كشف الحادث دولياً بعد تأخر الإعلان الرسمي.
وصُنّفت الكارثة على الدرجة السابعة، وهي الأعلى على مقياس الحوادث النووية الدولية، نظراً لحجم الإشعاع وتأثيراته الممتدة.
وعلى إثرها، بُنِي هيكل خرساني لاحتواء المفاعل، قبل أن يُستبدل لاحقاً بقبة فولاذية بدعم دولي افتُتِحت عام 2016.
كذلك، أسهمت الكارثة في مراجعة معايير السلامة النووية عالمياً، واعتُبرت من العوامل التي سرّعت انهيار الاتحاد السوفيتي.
فوكوشيما دايتشي (اليابان) - 2011
في 11 آذار 2011، تسبّب زلزال بلغت قوته 9 درجات على مقياس ريختر، تبعته موجات تسونامي، في كارثة نووية بمحطة فوكوشيما دايتشي شمال شرق اليابان، صُنّفت على الدرجة السابعة - الأعلى - وفق مقياس الحوادث النووية الدولية، لتُعد ثاني أسوأ حادثة نووية بعد تشيرنوبل.
وأدى الزلزال والتسونامي إلى تعطيل أنظمة التبريد في ثلاثة مفاعلات وانصهار أنويتها جزئياً، ما نتج عنه تسرّب كميات كبيرة من المواد المشعة إلى الجو والمياه.
لم تُسجَّل وفيات مباشرة نتيجة الإشعاع، لكن أكثر من 160 ألف شخص أُجبروا على مغادرة المناطق المحيطة، وفقاً للسلطات اليابانية.
وفيما بعد، قدّرت
وزارة الصحة وقوع مئات الوفيات غير المباشرة بسبب الصدمات والتهجير، خاصة بين كبار السن.
وتسرُّب اليود والسيزيوم المشع إلى المحيط والمياه الجوفية أثار قلقاً بيئياً واسعاً بشأن الحياة البحرية وسلامة السلسلة الغذائية.
ولا تزال عملية تفكيك المحطة مستمرة، ومن المتوقع أن تستمر حتى منتصف القرن الحالي، وفي عام 2023، شرعت الحكومة اليابانية بتصريف المياه المعالجة إلى البحر، في خطوة أثارت انتقادات داخلية وخارجية من الصين وكوريا الجنوبية.
جزيرة الأميال الثلاثة (الولايات المتحدة) - 1979
في 28 آذار 1979، تعرّضت
الولايات المتحدة لأخطر حادث نووي في تاريخها، حين شهد مفاعل في محطة "جزيرة الأميال الثلاثة" قرب هاريسبرغ بولاية بنسلفانيا انصهاراً جزئياً في قلبه، نتيجة خلل تقني أعقبته سلسلة من الأخطاء البشرية.
ووفق هيئة التنظيم النووي الأمريكية (NRC) والرابطة العالمية للطاقة النووية، أدى الحادث إلى تسرب كميات محدودة من الغازات المشعة إلى الغلاف الجوي، ما أثار ذعراً واسعاً بين السكان ودفع الآلاف إلى مغادرة المنطقة المحيطة طوعاً، رغم عدم صدور أوامر رسمية بالإخلاء.
وبدأت الأزمة بتوقف إحدى مضخات التبريد، تلاه فشل في قراءة طبيعة الخلل والتعامل معه، ما أدى إلى ارتفاع حرارة الوقود النووي وحدوث انصهار جزئي استمر لساعات قبل السيطرة عليه.
ورغم عدم وقوع انفجار أو أضرار مادية جسيمة، كشف الحادث عن ثغرات كبيرة في أنظمة المراقبة والسلامة، وأدى إلى تراجع الثقة العامة في الطاقة النووية.
ورغم أن السلطات لم تسجل وفيات أو إصابات مباشرة نتيجة التعرض للإشعاع، إلا أن سكان المناطق المجاورة أعربوا عن قلق مستمر، لا سيما مع ظهور مشكلات صحية لاحقة.
وخلصت التحقيقات الفيدرالية إلى أن الحادث كان يمكن تفاديه، وأوصت بتحديث الأنظمة وتعزيز التدريب والوقاية داخل
المحطات.
وأدى الحادث إلى تباطؤ ملحوظ في صناعة الطاقة النووية في الولايات المتحدة، حيث توقفت مشاريع بناء المفاعلات الجديدة لسنوات، بينما خضعت المنشآت القائمة لمراجعات مشددة في أنظمة التشغيل والسلامة.
مع هذا، فقد أُغلق المفاعل المتضرر نهائياً بعد الحادث، فيما استمر المفاعل الآخر في نفس الموقع بالعمل حتى عام 2019.
كيشتم (روسيا) - 1957
في 29 أيلول 1957، وقع انفجار نووي ضخم في منشأة "ماياك" قرب بلدة كيشتم في جبال الأورال وسط الاتحاد السوفيتي، فيما يُعدّ ثالث أسوأ كارثة نووية في التاريخ بعد تشيرنوبل وفوكوشيما، رغم أن الحادث ظلّ طيّ الكتمان لأكثر من ثلاثة عقود.
ولم تُصدر السلطات السوفيتية أي إعلان رسمي وقتها، ما جعل الانفجار يُصنَّف ضمن أخطر التسريبات النووية السرية في القرن العشرين.
وبحسب موسوعة بريتانيكا وموقع "وورد أطلس"، نتج الانفجار عن تعطل نظام تبريد في أحد خزانات النفايات النووية السائلة، ما أدى إلى تراكُم الحرارة وانفجار بقوة تعادل 70 إلى 100 طن من مادة TNT، مُطلقاً غيمة مشعة امتدت لأكثر من 300 كيلومتر نحو شمال شرق الموقع، فيما عُرف لاحقاً باسم "المناطق الملوثة في أورال الشرق".
ونتيجة للتعتيم، لم تُوثَّق الخسائر البشرية بدقة في حينه، لكن تقديرات علمية لاحقة تشير إلى وفاة نحو 200 شخص، وتعرّض أكثر من 10 آلاف آخرين لمستويات عالية من الإشعاع، كما تم إجلاء سكان 20 قرية من دون إبلاغهم بالأسباب.
واستمر الإنكار الرسمي حتى كشف العالم السوفيتي زورس ميدفيديف تفاصيل الحادث في كتاب نشره عام 1976 من منفاه، بينما لم تعترف موسكو رسمياً بالكارثة إلا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينيات، حين أُتيح للباحثين الوصول إلى بعض الوثائق.
ولا تزال آثار الحادث البيئية قائمة، إذ بقيت التربة والمياه ملوثة لعقود، بينما تُعدّ أجزاء من "طريق الغيمة المشعة" غير صالحة للسكن حتى اليوم.
ويندسكيل (المملكة المتحدة) - 1957
في تشرين الأول 1957، اندلع حريق داخل أحد مفاعلي منشأة "ويندسكيل" النووية في شمال غرب إنجلترا، فيما اعتُبر أول حادث نووي خطير في تاريخ
المملكة المتحدة، وواحداً من أكثر الحوادث التي أحيطت بالسرية لعقود.
وبحسب موسوعة بريتانيكا، استمر الحريق نحو 16 ساعة، وأدى إلى تسرب مواد مشعة أبرزها اليود-131 في الغلاف الجوي، ما تسبب في تلوث بيئي طال مناطق واسعة في شمال إنجلترا واسكتلندا.
المنشأة كانت مخصصة لإنتاج البلوتونيوم لأغراض عسكرية ضمن سباق التسلح النووي إبان الحرب الباردة، ووقع الحريق بعد محاولة رفع حرارة قلب المفاعل لتسريع الإنتاج دون تقييم كافٍ للمخاطر.
تأخر الفنيون في إدراك حجم المشكلة، واستخدموا وسائل بدائية في محاولة إخماد الحريق، قبل أن يُقرَّر في النهاية إغلاق أنظمة التهوية لخنقه، ما خفّف من حجم التسرّب دون أن يمنعه كلياً.
ولم تسجّل وفيات مباشرة، إلا أن الحكومة
البريطانية قدّرت لاحقاً أن المئات ربما أُصيبوا بسرطان الغدة الدرقية نتيجة التعرض لليود المشع.
كذلك، جرى سحب كميات كبيرة من الحليب من الأسواق كإجراء وقائي، في واحدة من أولى حالات التدخل الغذائي المرتبطة بتسرب نووي في أوروبا.
ورغبةً في الحفاظ على السمعة النووية للمملكة المتحدة في خضم المنافسة الدولية، ظلت تفاصيل الحادث طي الكتمان حتى الثمانينيات، حين كشفت تقارير رسمية أن الحريق كان أخطر بكثير مما أُعلن، وأن سوء تقدير فني كاد يؤدي إلى انفجار واسع النطاق. (BBC)