في منعطف جديد يعكس تعقيدات المشهد في قطاع غزة بعد الحرب، تكشف وثائق عسكرية أمريكية توجهًا نحو إبقاء غزة مقسمة على المدى
الطويل بين منطقتين، خضراء مخصصة لإعادة الإعمار تخضع لسيطرة إسرائيلية ودولية، ومنطقة حمراء تترك مدمرة بلا خطط لإحيائها.
وبحسب صحيفة "الغارديان"
البريطانية فإن الوثائق الأمريكية التي اطلعت عليها تبرز تصورًا عسكريًّا سياسيًّا يجري تداوله داخل الإدارة الأمريكية، يقوم على تثبيت خط فاصل هو "الخط الأصفر"، تحت السيطرة
الإسرائيلية، ليقسم القطاع فعليًّا إلى شطرين.
فعلى الجانب الشرقي من "الخط الأصفر" تُقام المنطقة الخضراء، حيث تنتشر قوات إسرائيلية وأجنبية، وتباشر شركات دولية أعمال إعادة الإعمار، أما إلى الغرب من الخط نفسه، فيتكدس
الفلسطينيون بعد عمليات تهجير واسعة، لتتحول المنطقة إلى منطقة حمراء بلا خدمات أساسية ولا خطط للبناء.
ووفقًا لصحيفة "الغارديان"، يعكس هذا التوجه حالة اضطراب واضحة في سياسات
واشنطن، وتقلبات متسارعة في رؤيتها لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار المؤقت.
يأتي ذلك وسط أزمة إنسانية غير مسبوقة يعيشها أكثر من مليوني فلسطيني؛ ما يطرح أسئلة جوهرية حول توجهات واشنطن، وحول ما إذا كانت الخطة مجرد إدارة أزمة جديدة أم محاولة هندسة واقع سياسي أمني يبقي القطاع في حالة لا حرب ولا سلام.
هذه التطورات تأتي أيضًا في ظل أزمة إنسانية هائلة ونزوح غير مسبوق، جعل من إعادة الإعمار أولوية ملحة للمجتمع الدولي، لكن واشنطن وفق الصحيفة، تتجه لتقديم تصور يقيّد الإعمار بالمنطقة الخضراء فقط، ويجعل منه أداة جذب للمدنيين للانتقال شرقًا، بينما تبقى المنطقة الحمراء مهملة، بلا موارد أو خدمات.
وتعد إقامة قوة الاستقرار الدولية الأساس العملي لخطة الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب المكونة من 20 بندًا، التي تسعى للحصول على تفويض من
مجلس الأمن لنشر قوات أجنبية في غزة.
ويرى الخبير العسكري ضيف الله الدبوبي أن الخطة الأمريكية لتقسيم غزة تتجاهل الاعتبارات العسكرية الأكثر حساسية في ساحة معقدة مثل القطاع.
ويقول الدبوبي في حديث لـ"إرم نيوز"، إن إنشاء منطقة خضراء محمية بقوة دولية وإسرائيلية سيحول شرق غزة إلى منطقة عسكرية مغلقة، ما يعني أن
إسرائيل ستحتفظ بقدرة عالية على مراقبة الحركة وتنفيذ عمليات داخلية تحت غطاء دولي.
ويؤكد الدبوبي أن ترك المنطقة الحمراء بلا إعادة إعمار أو وجود أمني دولي سيخلق بيئة خصبة لعودة الجماعات المسلحة؛ ما يحول الخط الأصفر إلى جبهة اشتباك دائمة ويجعل أي عملية إعادة استقرار أمرًا شبه مستحيل.
ويضيف أن تصور الاعتماد على قوات أوروبية في المهام الحساسة، مثل نزع المتفجرات وتأمين الطرق، يحمل مخاطر تشغيلية كبيرة، خاصة في ظل تجارب الغرب المريرة في أفغانستان والعراق، حيث تحولت القوات الدولية إلى أهداف مباشرة.
ويرى الدبوبي أن وجود القوة الدولية إلى جانب الجيش
الإسرائيلي في نقاط العبور سيخلق تضاربًا في الفرق العسكرية، ويعرّض القوات الأجنبية لضغوط متناقضة.
أما على مستوى السيطرة
الفلسطينية المحدودة التي تتحدث عنها الخطة، فيشير الدبوبي إلى أنها لا تتيح أي قدرة أمنية فعلية، وستجعل الشرطة الفلسطينية مجرد عنصر رمزي في مشهد تهيمن عليه القوى الدولية.
ويخلص الدبوبي إلى أن الخطة ستنتج وضعًا عسكريًّا هشًّا، يؤسس لجولات جديدة من القتال أكثر مما تؤسس للاستقرار.
وتشمل الخطة الأمريكية أيضًا إعادة تشكيل قوة شرطة فلسطينية صغيرة، وتجريد الفصائل العسكرية من السلاح، واستمرار الانتشار الإسرائيلي إلى حين توفر ضمانات دولية دون تحديد أي إطار زمني.
وتكشف وثائق "الغارديان" أن انتشار القوة الدولية سيكون محدودًا داخل "المنطقة الخضراء" فقط، على أن يبدأ ببضع مئات من الجنود ثم يرتفع تدريجيًّا إلى نحو 20 ألف جندي.
ووفق الخطة، تنشأ في البداية قوة شرطة فلسطينية من 200 عنصر فقط، ترتفع لاحقًا إلى 3000–4000 عنصر، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بالحاجة الأمنية في قطاع مكتظ سكانيًّا.
ويرى المحلل السياسي بلال العضايلة أن الخطة الأمريكية تقوم على فرضية سياسية مضطربة، لأنها تبني مستقبل غزة على واقع تقسيمي قسري، دون ضمانات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تجعل هذا التقسيم قابلًا للاستمرار.
ويشير العضايلة في تصريح لـ"إرم نيوز" إلى أن الإبقاء على مليوني فلسطيني في منطقة حمراء مدمرة سيخلق حالة غضب اجتماعية وسياسية ضخمة، لن تسمح بنجاح أي نموذج تنموي في المنطقة الخضراء، لأنها ستنظر إليه كمنطقة فصل عنصري مغلفة بخطاب الإعمار.
وبحسب العضايلة، فإن الخطة أمام اختبار حقيقي ومعرضة للفشل لأنها لا تعالج جذور الصراع، ولا تقدم ضمانات حقيقية للسيادة الفلسطينية، بل تكرس واقعًا جديدًا قد يتحول إلى دويلة داخل دويلة، ما ينذر بفشل طويل الأمد.
وفي المحصلة، تبدو غزة اليوم عالقة بين حرب أنهكت مجتمعها، ووقف إطلاق نار هش تحاول القوى الدولية هندسته ليكون بوابة نحو مرحلة جديدة، لكنها مرحلة مثقلة بالشكوك، فالمشهد الإقليمي والدولي لا يمنح أي ضمانة على أن مشروع تثبيت مناطق خضراء وحمراء يمكن أن يتحول إلى واقع قابل للحياة، ولا حتى إلى إدارة انتقالية مستقرة. (ارم نيوز)