لا تعكس زيادة حوادث الطيران العسكري في الولايات المتحدة مجرد خلل تقني عابر أو سلسلة أخطاء فردية، بل تكشف، وفق تقرير لمجلة "ريسبونسبل ستيت كرافت"، أزمة بنيوية تمتد إلى فلسفة الانتشار العسكري نفسها.
فالقوات الأميركية تعمل اليوم بسقف عملياتي غير مسبوق منذ الحرب الباردة، مع اعتماد واسع على طائرات شديدة التعقيد تقنياً، بالتوازي مع تراجع ساعات تدريب الطيارين، وارتفاع الضغط السياسي للإبقاء على أساطيل قديمة في الخدمة رغم سجلها
الطويل مع الأعطال. هذا المزيج من ضغط المهام الخارجية، ومشكلات التجهيز، ونقص التدريب، وتدخلات الكونغرس، صنع ما يشبه "العاصفة المثالية" التي دفعت معدلات الحوادث والضحايا إلى مستويات مقلقة.
وبحسب تقرير مكتب وارن (ديمقراطية – ماساتشوستس)، ارتفع معدل الحوادث الخطيرة بنسبة 55 في المئة لكل 100 ألف ساعة طيران مقارنة بعام 2020.
وأسفرت هذه الفترة، بين 2020 و2024، عن خسائر قيمتها 9.4 مليار دولار، ووفاة 90 عسكريًا وموظفًا مدنيًا في
وزارة الدفاع، وتدمير 89 طائرة.
أما سلاح الجو الأميركي وحده فقد خسر 47 عنصرًا في 2024 في "حوادث كان يمكن منعها".
وتكشف الوقائع، أن جزءًا من المشكلة يكمن في استمرار الاعتماد على طائرات معروفة بمشكلاتها التقنية، فالطائرة في-22 أوسبري، التي أدت أعطال علبة التروس والقابض فيها إلى حوادث قاتلة، لا تزال في الخدمة، بل تشارك في الحشد العسكري الأمريكي قرب فنزويلا.
ولا تتوقف القائمة عند ذلك، إذ تشمل أباتشي إيه إتش-64 التي ارتفعت حوادثها بمعدل 4.5 مرات في 2024 مقارنة بـ2020. كما تضاعف معدل حوادث طائرة سي-130 خلال الفترة نفسها.
فيما عرفت طائرة إم إتش-53 إي سي دراغون بسجل طويل من الحوادث، وظلت بالخدمة حتى أوائل 2025.
هذه الأرقام، كما يرى الخبراء، تعكس معضلة تتجاوز الأخطاء البشرية إلى مشكلات هيكلية في تصميم وإدارة الأسطول.
إذ يرى دان غرايزيير، مدير برنامج إصلاح الأمن القومي في مركز ستيمسون، أن نقص ساعات الطيران يمثل محورًا أساسيًا في الأزمة، قائلا: "عدد ساعات الطيران التي يحصل عليها الطيارون العسكريون الأمريكيون كان ضعيفًا لسنوات."
وأشار إلى أن الطيارين “لا يطيرون بما يكفي للحفاظ على مهاراتهم، ناهيك عن تطويرها”.
وتؤكد بيانات مكتب الميزانية في الكونغرس (CBO) هذا التراجع، حيث انخفض متوسط ساعات الطيران لطاقم الطائرات المأهولة إلى 198 ساعة فقط عام 2023، مقارنة بـ302 ساعة في 2011.
ويعود ذلك، وفق غرايزيير، إلى أن الطائرات الحديثة "معقدة للغاية، ولا تعمل بالقدر الذي تحتاجه القوات".
وحتى الطائرات الأكثر تطورًا مثل إف-35 تُسجّل معدلات جاهزية منخفضة تمنعها في كثير من الأحيان من تنفيذ المهام.
بدوره، يشير ويليام هارتونغ من معهد كوينسي، إلى عامل سياسي مهم في تفاقم الأزمة، يتمثل في قيام المشرّعين بسحب الأموال من مخصصات التدريب لإضافة أسلحة لم يطلبها "البنتاغون" أصلاً.
هذه الممارسات، كما يقول، تُضعف قدرة القوات على التدريب والصيانة، وتجعلها عرضة للحوادث التي كان يمكن تفاديها.
الأكثر من ذلك، ترى جينيفر
كافانا من مؤسسة "أولويات الدفاع"، أن الانتشار الأميركي في
الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا، ثم في أمريكا اللاتينية مؤخرًا، يحمّل الطيارين والطائرات فوق طاقتهم، ويربك دورات التدريب، ويزيد الإرهاق ويقود إلى أخطاء بشرية مكلفة، فضلًا عن تسريع تهالك المعدات.
وتدعو كافانا إلى إعادة النظر في الالتزامات العسكرية العالمية وتقليص الانتشار الخارجي بما يسمح باستعادة الجاهزية. (العين)