Advertisement

عربي-دولي

خطايا روسيا الأربع... هل تنقذ التعبئة العسكرية بوتين؟

Lebanon 24
03-10-2022 | 23:29
A-
A+
Doc-P-996858-638004632187763346.jpg
Doc-P-996858-638004632187763346.jpg photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
في الوقت الذي بدأت فيه أنباء الانتكاسات الروسية في أوكرانيا تتسرب إلى وسائل الإعلام، خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب في 21 سبتمبر/أيلول مُعلنا تعبئة عسكرية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. وفي حين يجادل خبراء أن إعلان التعبئة في جيش بحجم الجيش الروسي يمكن أن يقلب الموازين العسكرية رأسا على عقب، يراهن آخرون أن هذه الخطوة يمكن أن تعمق أزمة موسكو بدلا من أن تحلها. في مقاله المنشور بمجلة "فورين أفيرز" الأميركية، يجادل لورنس فريدمان، الأستاذ الفخري لدراسات الحرب في كينجز كوليدج لندن ومؤلف كتاب "القيادة: سياسة العمليات العسكرية من كوريا إلى أوكرانيا"، أن قرار التعبئة الأخير سوف تكون له عواقب وخيمة على روسيا، ليس فقط في أوكرانيا، ولكن في موسكو نفسها.
Advertisement

في خطابه يوم 21 سبتمبر/أيلول عن الخطوات التي ينوي اتخاذها للانتصار في حربه بأوكرانيا، اضطر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لشرح أسباب عدم تحقيق النصر حتى اللحظة، وقال إن المُذنِب هو حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي اتَّهمه بتقديم دعم ضخم لكييف. وقد تعهَّد بوتين بأن بلاده "ستستخدم كل الوسائل المتاحة" إذا تعرَّضت وحدة الأراضي الروسية للاختراق، لكن فحوى عبارته تُرِك مُبهَما، لا سيما مع صعوبة تحديد الخطوط الحمراء "للأراضي الروسية" المقصودة بالنظر إلى السيولة الشديدة للأوضاع على الأرض. وقد رأى البعض أن عبارته إشارة إلى الاستفتاءات التي عُقدت مؤخرا في الأراضي التي استحوذت عليها موسكو في شرق وجنوب أوكرانيا، أما تهديده النووي فتوجَّه به صراحة إلى حلف الناتو كما فعل سابقا، كي يردعه عن الانخراط أكثر من ذلك في جهود دعم أوكرانيا.


سرعان ما عرفنا الخطوة التي اقترحها بوتين لقلب موازين الحرب لصالحه، وهي إعلانه إرسال المزيد من القوات، حيث أصدر مرسوما طالب كل الروس الذين تلقّوا تدريبا عسكريا في الماضي بأن يتقدَّموا للخدمة العسكرية، وهي تبعئة وُصِفَت بأنها "جزئية" وإن لم تكُن هيِّنة. ووفقا للأخبار الواردة إلينا، يبدو أيضا أن الرجال الذين لم يتلقّوا تدريبا عسكريا سابقا يجري جمعهم هذه الأيام لخوض القتال، بما في ذلك الطلبة الذي يُفتَرَض إعفاؤهم من الخدمة العسكرية. ورغم أنه ليس واضحا ما إن كانت التعبئة ستُحدِث الفارق المرجو في مسار الحرب، فإنها رفعت المخاطر بالفعل لبوتين في الداخل، إذ يجري حشد المئات من الرجال في جو كئيب داخل حافلات قبل نقلهم إلى أرض المعركة، في حين يسعى آخرون للهروب من البلاد، أو الاحتجاج في الشوارع رغما عن الإجراءات الأمنية المُشدَّدة ضد الاحتجاجات في روسيا الآن.


لا يبدو إذن أن الفشل أمر يُمكِن لبوتين أو حاشيته أن يُقِرُّوا به حتى اللحظة. ففي كل مرحلة من مراحل الحرب ضاعف بوتين من جهوده بلا كَلَل، بدءا من إجهاض هجومه الأول على "كييف" في فبراير/شباط، وحتى تقدُّمه البطيء في لوهانسك الصيف الماضي، وأخيرا، النجاحات المفاجئة التي حققتها القوات الأوكرانية مؤخرا في "خاركيف" في سبتمبر/أيلول. وبدلا من البحث عن طريقة لتقليص خسائره وإنهاء الحرب قبل أن تسوء الأوضاع أكثر، يُصِرُّ بوتين إلى الآن على أن أهدافه قابلة للتحقُّق، وإن تغيَّرت أهدافه تلك طيلة الأشهر الماضية.

المعركة الواضحة في كييف والمُبهَمة في موسكو

لقد عانى هرم القيادة العسكري الروسي لمواكبة عدوه الأوكراني الذي قاوم مقاومة عنيدة وخلَّاقة، ووضع الروس أمام مشكلات في تنفيذ العمليات على الأرض لم يتوقَّعوها ولم يتجهَّزوا لها جيدا. والأهم من ذلك أن قرار بوتين الأول بالغزو في فبراير/شباط كان مشوَّشا، فقد نظر الرجل إلى عدوِّه نظرة سفَّهت منه ومن جاهزيته العسكرية ومن الاتجاهات الشعبية داخل أوكرانيا. وقد أدى سوء الفهم ذلك إلى اعتقاد متعجرف بأن المقاومة الأوكرانية ستنهار مع أول هجمة روسية، وأن البلاد ستخضع له بسهولة بعدئذ. ولا يحتاج الأمر إلى معرفة عميقة بالتاريخ الأوكراني كي نُدرك مدى صعوبة ذلك، لا سيما أن القوات الروسية لم تكن لتمتلك القدرة على إخضاع شعب بهذا التعداد الضخم بفرض أنها نجحت بالفعل في إجبار المقاومة على الاستسلام.

 
كما اتضح الآن، فإن تلك الافتراضات الخاطئة خلقت مشكلة أعمق. ولأن بوتين لم يُقِر بأن غزو أوكرانيا صراع عسكري مُكتمل الأركان (بل كان "عملية عسكرية خاصة" كما سمَّاه الإعلام الروسي)*، فإنه سرعان ما وجد نفسه معتمدا على عدد قليل جدا من المقاتلين لا يكفي بعد أن تحوَّل هجومه الأوليُّ إلى حرب مُميتة وبطيئة وطاحنة. نتيجة لذلك، اضطر بوتين الآن إلى البحث عن وسائل جديدة لتجديد دماء قواته، ولكن بعد أن وصل إلى مرحلة يصعُب معها تغيير المسار واستعادة الزخم. كيف وصلت روسيا إلى هذا المنعطف الاستثنائي؟ يجب علينا أن نفهم هذا الوضع، لا بوصفه نتيجة لصلابة واستبسال الأوكرانيين والدعم الغربي فحسب، بل أيضا بوصفه نتاجا لسلسلة من الأخطاء العسكرية التي ارتكبتها القيادة الروسية بدءا من إستراتيجيتها الأوليَّة التي شنَّت الغزو وفقا لها.

في الأيام الأولى للحرب، كان صعبا تخيُّل أن روسيا تفتقد القوات اللازمة لإتمام المرحلة الأولى من غزوها أوكرانيا، فقد استمر حشدها العسكري الصلب طيلة أشهر قبل قرار الغزو في فبراير/شباط. ولأن بوتين ترك الجميع تقريبا -بمَن فيهم قادته العسكريون الكبار- يُخَمِّنون كيفية استخدام تلك القوات، لم تخرج الإستراتيجية الروسية في الأخير بعد تفكير وتخطيط كافيين، ناهيك بأن قادة الجبهة العسكرية أُعلِموا بنية الغزو متأخرا، فلم تمنحهم موسكو الوقت الكافي للإعداد. وقد اختار الكرملين خطوطا منفصلة وكثيرة جدا للزحف، حتى إن الحرب تحوَّلت إلى سلسلة من الحروب الصغرى المنفصلة لكلٍّ منها هرم القيادة الخاص بها، دون آليات مناسبة للتنسيق ومشاركة الموارد العسكرية فيما بينها. ولذا، أمكن دحر العديد من الخطوات العسكرية الروسية الأولى.


الأهم من كل ذلك أن روسيا فشلت في الاستحواذ على كييف، وعجزت عن زعزعة القيادة السياسية الأوكرانية، حيث نجح الرئيس الأوكراني "زيلينسكي" في حشد شعبه من العاصمة، وفي تدبير العدة والعتاد اللازمين من الدول المتعاطفة مع أوكرانيا. ورغم تفوُّق الروس العددي دون شك، ظهر تباين واضح في فهم كل طرف لهدفه من الحرب، إذ إن الأوكرانيين يحاربون بوضوح من أجل الدفاع عن بلدهم وتحرير الأراضي التي احتلها الروس (قدر الإمكان)، أما الروس فلا تبدو لديهم أهداف واضحة، وقد وقفوا ينتظرون الأوامر ليس إلا (بدأت الحرب بهدف روسي صريح هو إسقاط كييف والحكومة الأوكرانية، ثم سرعان ما أدى الإخفاق إلى تعديل البوصلة إلى السيطرة على الجنوب والشرق)*.


يُنتظَر دوما من الدول العظمى التي تحارب بلادا صغيرة أن تملك عددا كافيا من قوات الاحتياط لمواجهة الإخفاقات المبكرة. ولكن بالنسبة إلى روسيا، فإن القيادة العسكرية الرخوة للمعركة في أوكرانيا تخلَّت عن هذه الميزة لدى روسيا (باعتبارها واحدة من الدول العظمى)*. فبعد شهر من الحرب أُجبِرَت القوات الروسية على الانسحاب من الشمال حتى تركز على العمليات التي تُشن في الجنوب والشرق. إن "دونباس" هي المنطقة التي نظرت إليها موسكو بوصفها موطن النزاع ولُبَّه، وقد بدا لفترة أن مع تمركز القوات الروسية للاستيلاء على المنطقة -باستعمال تكتيكات تقليدية مدعومة باستخدام قذائف مدفعية ثقيلة تُضعِف الدفاعات الأوكرانية- سيكون الروس أصحاب اليد العليا في المعركة على هذه المنطقة. ورغم أن الأوكرانيين لم يُجتاحوا كليًّا، كانت هنالك مخاوف في كييف وفي أوساط حلفائها الغربيين من أن المجهود الدفاعي قد يتركهم بلا مقدرة كافية على شن هجوم مضاد.


ولذا، شرع بعض المحللين الغربيين في طرح حجج مفادها أن من الممكن أن تنتهي الحرب مبكرا استنادا إلى المفاوضات، وهو أمر يستلزم تنازل أوكرانيا عن بعض الأراضي لروسيا من أجل السلام. بيد أن هذه الأصوات لم تلقَ آذانا مصغية إلا نادرا في أوكرانيا، إذ أفضت المعاملة النكراء التي لاقاها الأوكرانيون العالقون في الأراضي المحتلة واستعداد روسيا لقصف المناطق المدنية عن بكرة أبيها إلى اشتداد عزيمة الأوكرانيين على مواصلة القتال والحرب. فلم يكن هناك محور دعائي "لكسب العقول والقلوب" في الحملة الروسية (على غرار الحملة الدعائية التي بدأت بها الولايات المتحدة حربها على العراق عام 2003، ونجحت في اجتذاب شرائح من العراقيين إلى صفوفها في الأشهر الأولى من الغزو، ومن ثمَّ تحفيز العراقيين لمهاجمة نظام صدَّام بأنفسهم بسبب حنقهم عليه)*.

حملت القوات الأوكرانية على أكتافها خسارات فادحة كي تُثبِّط التقدم الروسي، لكن الوقت الذي استغرقته هذه المقاومة الشجاعة كان كافيا للسماح بوصول أسلحة أكثر تطوُّرا (على رأسها "هيمارس"، نظام راجمات الصواريخ عالي التقنية المصنع أميركيًّا)، وكذلك لإتاحة تدريب القوات الأوكرانية على استعمالها. وفي هذا الوقت، وبينما امتلكت أوكرانيا تدريجيا القدرة على استهداف أهداف بعيدة المدى بدقة فائقة، كانت القوات الروسية قد استنفدت نصيب الأسد من مخزونها من الذخائر المُوجَّهة. وعلى مدار شهر يوليو/تموز، تعرَّضت مستودعات الذخائر الروسية للقصف بانتظام، وكذلك مواقع القيادة والمواقع اللوجيستية وأنظمة الدفاع الجوية الروسية، مما قوَّض قدرة موسكو على مواصلة هجماتها، ومن ثمَّ مكَّن الأوكرانيين من شن واحدة من أكبر هجماتهم لتحرير منطقة "خيرسون" في الجنوب.

لقد بدا أن الهجوم الأوكراني على "خيرسون" يُحرِز تقدما بطيئا ولكنه ثابت، حينما فوجئ الروس في مطلع سبتمبر/أيلول بهجوم أوكراني مهيب على حين غرَّة استهدف قواتهم ذات الانتشار الهزيل حول "خاركيف"؛ مما أفضى إلى إيقاع الهزيمة بالقوات الروسية في العاشر من الشهر نفسه، وإلى تراجعها بشكل فوضوي. والآن، بعد سبعة أشهر من الحرب، بات زمام المبادرة بيد أوكرانيا. فقد أدَّت هذه الأحداث إلى حدوث أزمة سعى بوتين إلى حلها في بيانه الصادر يوم 21 سبتمبر/أيلول، وإن كانت قرارته اللاحقة قد فاقمت من الورطة التي تواجهها القوات الروسية على أربعة أوجه.

خطايا روسيا الأربع

وقع بوتين في خطئه الأول بمجرد أن اتضح له المسار السيئ الذي اتخذته الحرب بالنسبة إلى روسيا، فلم يستعمل الرئيس الروسي الوسائل الدبلوماسية لإنهاء الحرب والظفر ببعض المكاسب. ففي الأسابيع التي عقبت بداية الغزو، لم تنقص بوتين فرصة فتح باب النقاش مع قادة العالم الآخرين. وفي الفترة من فبراير/شباط إلى إبريل/نيسان، عُقِدَت محادثات مباشرة بين وفدين من روسيا وأوكرانيا، بما فيها المحادثات التي رعتها تركيا وكانت على مستوى رئيسَيْ وزراء البلدين. وأحرزت المحادثات بعض التقدم في الأفكار المتعلقة بالحياد الأوكراني المستقبلي مقابل تقديم ضمانات أمنية، ولكن لم تناقش التفاصيل بتاتا، وفشلت روسيا في إقناع الأوكرانيين بأن أي تنازلات ستحصل من جانبهم ستُفضي إلى انسحاب روسي.


بعد كل ما جرى من جرائم روسية في ضواحي العاصمة الأوكرانية، تلاشت بالكامل قدرة كييف على الثقة بكلمات روسيا عن أي شيء، وقتلت أكاذيب بوتين المتواصلة مصداقيته عند المحاورين الدوليين الذين توسَّطوا بين الطرفين. وعلى القدر نفسه من الأهمية، لم يجد بوتين سبيلا إلى تقديم تنازلات ملموسة، لأن القبول بأقل مما طالب به يعني بالنسبة إليه ضربا من الهزيمة. وحينما قدَّم الكرملين مقترحا لوقف إطلاق النار الصيف الماضي ولاقى أصداء إيجابية لدى بعض العواصم الغربية، لم تُقدِّم روسيا أيضا تنازلا واحدا ملموسا لأنها لم تكن قد أحكمت قبضتها بَعْد على إقليم "دونباس" كاملا.


أما الخطيئة الثانية لبوتين فهي إساءة تقديره للنفوذ الذي يجنيه من الغاز والبترول الروسي. فقد راهن بوتين على أن أزمة الطاقة التي شنَّها بقطع إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا قد تدفع الحكومات الغربية إلى الاقتناع بالضغط على كييف لتقديم التنازلات، ومنع المساعدات العسكرية عنها. وقد كان لقطع الإمدادات آثاره الوخيمة بالفعل على الاقتصاد الأوروبي، حيث تسبَّبت في نقص الطاقة وارتفاع التضخُّم، بيد أن قطع الإمدادات أتى بنتائج عكسية على المستوى السياسي. فلم يحصل لغط فيما بين الأوروبيين للتخلي عن أوكرانيا كي يتخففوا من الأعباء الاقتصادية، بل على العكس من ذلك، بذل المسؤولون الأوروبيون ما في وسعهم من جهود باذخة حتى يقللوا من اعتماديتهم على الغاز الروسي، ومن ثم أفقدوا روسيا سوقا حيًّا لها في مجال الطاقة.

أما الخطأ الثالث الذي ارتكبه بوتين فيتمثَّل في تركيزه على المكاسب الإقليمية في إقليم "دونباس" بعد فشل هجوم كييف الأول. فقد بدا الهجوم على الشرق أكثر جدوى ومنطقية من الناحية السياسية، وأمكن تنفيذه على نحو متأنٍّ ومنهجي. لكن ذلك عنى أيضا تركيز الموارد الروسية المتاحة على ما صار الآن شريطا ضئيلا من خط مواجهة طويل جدا، ومن ثم تحمل خسائر فادحة من أجل تحقيق مكاسب متواضعة. في الوقت نفسه، استمرت القوات الروسية في التقليل من قدرات الأوكرانيين، في حين كُشِفَت مكامن الخلل الروسية مع تحسن القدرات الأوكرانية، سواء من حيث الأصول الروسية الحيوية التي لم تلقَ حماية كافية -مثل مستودعات الذخائر- أو من حيث عدد المناطق التي أحكمت روسيا سيطرتها عليها ولا تستطيع الدفاع عنها الآن بالشكل الكافي. لقد افتقدت موسكو القوات الاحتياطية لتعزيز دفاعاتها في المناطق الشمالية والجنوبية بإقليم "دونباس" -أي في "خاركيف" و"خيرسون" على الترتيب-، وبعد أن اختارت أن تدافع عن "خيرسون" لأن أوكرانيا أعلنت صراحة نيتها شن هجوم هناك، فإن ذلك ترك القوات الروسية مكشوفة في "خاركيف".

إن الدفاعات الروسية غير المُجهَّزة سلَّطت الأضواء على الخطأ الرابع الناجم عن خيارات بوتين. فنظرا إلى أن الاجتياح صُمِّم ليكون عملية محدودة وسريعة -كما تمنَّى بوتين-، فلم تصاحبه تعبئة عسكرية كاملة، بل ولم تُسمَّ العملية حربا أصلا، مما يعني أن روسيا لم تمتلك عددا كافيا من سلاح المُشاة منذ البداية. ومع مرور الوقت، أفضت الخسائر الفادحة التي تكبَّدتها روسيا إلى إنهاك كل الأقسام الأخرى كمًّا ونوعًا. وبدلا من أن يعترف بوتين بالخسائر، راح يشجع الجهود على إيجاد مجندين جُدد في أي بقعة يمكن العثور عليهم فيها، مستعملا وسائل عدة منها الرشوة والاستمالة والإكراه. وبالفعل، فإن الكثيريين ممن يرتدون الزي العسكري -في سلاح الجو على سبيل المثال- أُمِرُوا بتنفيذ أدوار لم يُدَرَّبوا عليها أصلا. وقد عرضت مجموعة "فاغنر" -وهي مجموعة روسية من المرتزقة على صِلات وثيقة بالكرملين- على السجناء الروس أن يتطوعوا في الجبهة لقاء إسقاط العقوبات عنهم. وعلى إثر ذلك، أضحت العمليات المعقدة أشد صعوبة في إدارتها بسبب تفكُّك الوحدات المقاتلة، وتشكُّلها من مجموعات لم تتلقَّ تدريبا ملائما ولم تعمل بصورة جماعية من قبل.


تعني كل مكامن الخلل هذه أن الأوكرانيين كانوا قادرين على التحرك سريعا في هجومهم الذي شنوه على "خاركيف" في سبتمبر/أيلول الماضي، مع مقاومة روسية لا تُذكر في معظم الأحيان. ويسعى بوتين حاليا إلى إصلاح العجز المزمن في القوة البشرية بتعبئة عسكرية لفئة كبيرة من الناس، بصرف النظر عن الخبرات التي يحملونها والأدوار العسكرية المطلوبة منهم. ويبلغ هدف التعبئة الأوليّ نحو 300 ألف جندي إضافي، رغم أن العدد النهائي ربما يكون أكبر من ذلك بكثير جدا.

غير أن حشد هذا العدد في الخدمة دون عتاد مناسب (لا سيما والشتاء على الأبواب)، ودون تدريب، ودون ضباط محترفين قادرين على توجيههم وقيادتهم؛ هو مخاطرة تُنذر بحصول مذابح على أرض المعركة، وبالتبعية ردود فعل عنيفة داخل روسيا. وفي غضون ذلك، فإن مرسوم بوتين يمنع هؤلاء الذين هم فعليا في الصفوف الأمامية ممن يؤدون الخدمة بعقود قصيرة الأمد عن المغادرة؛ مما قد يؤدي أيضا إلى تراجع الروح المعنوية والانضباط لدى الجنود، وهي المشكلات التي ابتُليت بها القوات الروسية أصلا منذ البداية

هناك قول شائع في أوساط القلقين بشأن خطوة روسيا في المرحلة القادمة هو إن بوتين من المستحيل أن يقبل بالخسارة. لكنه في الحقيقة يُمكِن أن يخسر فعلا، ولعله في الطريق إلى الخسارة. فقد أفضت به سلسلة من القرارات المروعة إلى تقويض المكانة الدولية لروسيا وأُفق اقتصادها المستقبلي، والإخلال بسمعة الفيدرالية الروسية بوصفها قوة عسكرية جادة، وإلى فشله في أهم مقامرة في مشواره السياسي. وكما هو الحال في كل الحروب، فإن المسار المستقبلي لهذه الحرب سيكون ذا جوانب غير متوقعة، لكن أوكرانيا بإستراتيجيتها الواضحة وأسلحتها الجيدة وقواتها الملتزمة قد أمسكت فعلا بزمام المبادرة. أما التعبئة العسكرية التي أعلنها بوتين فلن تُغيِّر من تلك الحقيقة، في حين أن استعمال الأسلحة النووية سيجعل من الموقف السيئ الآن كارثيا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. "الجزيرة" 
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك