أثار فيديو سرب مؤخرا يظهر تعذيب موقوفين اسلاميين في سجن رومية على يد عناصر أمنية مولجة بحماية المساجين، موجة غضب في الشارع اللبناني والسني تحديدًا، الاهالي الغاضبون قطعوا الشوارع في طرابلس والبقاع وصيدا على وقع وعود بملاحقة المرتكبين. تصعيد الشارع الغاضب (الطرابلسي تحديداً) قابلته مساع سياسية للتهدئة وتطويق الحادثة التي اعادت الى الواجهة ملف وضع السجون في لبنان لاسيما ملف الموقوفين الاسلاميين.
التعذيب في السجون أو في مرحلة التحقيقات ليس أمرا جديدا في أدبيات السجون. لكنها المرة الاولى التي يتم توثيق هذه الوحشية بالصوت والصورة لتنتشر على نطاق واسع بين اللبنانيين. في مرحلة شديدة الحساسية مذهبيا، تقوم 6 عناصر أمنية موزعة الانتماءات الطائفية، تابعة لجهاز المعلومات بتعذيب وإذلال وانتهاك كرامة موقوفين اسلاميين في السجن لم تتم محاكمتهم بعد.
الموقوفون الإسلاميون
من هم الموقوفون الاسلاميون؟ وكيف يستمر ملف قضائي مفتوحا لسنوات ويتراكم، من دون ان تلوح في الافق القريب أي مبادرة لانهائه رغم تعاقب الحكومات ووعودها المستمرة بالعمل على انهائه؟.
بعد معارك نهر البارد شمال لبنان بين عناصر من فتح الاسلام والجيش اللبناني، التي سقط فيها قرابة مئتي شهيد من الجيش اللبناني، القي القبض على عناصر من فتح الاسلام وزجوا في سجن رومية ليفتح ملف الموقوفين الاسلاميين. كان سبقهم الى السجن، تحت العنوان نفسه، عدد من الموقوفين في عام 2000 عقب معركة الضنية (شمال لبنان) بين جماعات اصولية والجيش، لكنهم خرجوا 2005 في اطار عفو عام شمل قائد القوات اللبنانية سمير جعجع.
ولاحقا، وإثر حوادث استهداف للجيش في طرابلس، القي القبض على عدد من المرتكبين. أضيف اليهم انصار الشيخ احمد الاسير بعد معركة عبرا في صيدا حزيران 2013، كذلك انضم إلى الموقوفين قادة المحاور في معارك باب التبانة وجبل محسن في طرابلس والتي انتهت بخطة أمنية أقرتها حكومة تمام سلام ونتج عنها اعتقال معظم المقاتلين وهروب عدد منهم.
شاعت في السنوات الاخيرة اطلاق اسم فندق خمس نجوم على سجن رومية بسبب "الدلال" الذي صُور فيه الموقوفون الاسلاميون. جاء الفيديو ليدحض هذه المقولة ويؤكد صحة ما ردده الأهالي لسنوات بأن انتهاكات خطيرة ترتكب بحق ابنائهم. ربما تصح فيه تسمية الامارة نظرا لاحتوائه عدداً هائلاً من الاسلاميين. لكن الاسلاميين ليسوا اسياد أمارتهم. فلا تقتصر مشكلتهم في تردي أوضاع السجن والاكتظاظ والأوضاع الرديئة داخل السجن، بل تمتد إلى موضوع المماطلة في المحاكمات وتعرضهم لانتهاكات خطيرة تحولهم من "مجرمين" الى "ضحايا".
تأخر المحاكمات
يجمع المطلعون على الملف على أن تأخر المحاكمات مردّه الى عدد الموقوفين الكبير، وعدم وجود قاعة لاستيعابهم، بالإضافة الى صعوبة وتعقيدات الإجراءات القانونية والقضائية. يشار ايضا الى ان عدداً من الموقوفين يمتنعون أحياناً عن الحضور الى جلسات المحاكمة. يتردد في بعض الاوساط الحقوقية أن بعض القضاة يخشون مقاربة الملف، نظراً للمخاطر التي قد تحدق بهم، ويفضلون تأجيله حتى بلوغهم سن التقاعد.
الموقوفون الاسلاميون عنوان فضفاض لملف قضائي متنوع التهم، من الارهاب الى مناصرة الثورة السورية وتقديم العون لها. من المؤكد ان ملفات البعض تتسم بخصوصية أمنية عالية تتعلق بالارهاب بحسب اعترافاتهم، لكن الخلط بين الموقوفين ووضعهم ضمن عنوان واحد لا يبدو منصفا. اليوم، أضيف ملف الموقوفين الاسلاميين الى هموم اللبنانيين الامنية والسياسية، لاسيما بعد احتجاز داعش والنصرة عناصر من الجيش اللبناني ومطالبتهما لاحقا بمقايضتهم بعدد من الموقوفين الاسلاميين في سجن رومية.
يكشف المحامي طارق شندب، وهو وكيل عدد من الموقوفين، لـ "القبس" الكويتية، أنه سبق ان تقدم بعدة شكاوى عن حالات تعذيب قام بها ضباط في الجيش في سجن وزراة الدفاع، لكنها نامت في الأدراج. ومنذ ثلاثة أشهر تقدم بشكوى بوكالته عن الشيخ عمر الاطرش، ولم يحقق أحد في الموضوع. يخبر "القبس" عن موقوفين يأتون من وزراة الدفاع بعد التحقيق معهم "مكسرين" (مكسري العظام)، لكن القضاء العسكري يغض النظر. عن سبب بطء المحاكمات، يقول: "لكي تستمر الحكومة في رفع لافتة محاربة الارهاب، في حين انها تغطي الارهاب وتظلم الناس".
القضاء يخضع لضغوط من "حزب الله". يسوق شندب دليله، فيروي واقعة حصلت قبل ايام: "أمر قاض بالافراج عن متهمين في خطف الضابط السوري المنشق محمد ناصيف، وثلاثة سوريين، بالرغم من ان المتهمين اعترفوا اعترافا تاما وصريحا بخطف الضابط وتسليمه الى حزب الله".
"لا مساواة ولا عدل في القضاء اللبناني، الذي يقدم التحية لمن يذهب ليقاتل الشعب السوري، ويتهم بالارهاب من يناصر ثورته"، وفق شندب.
هكذا يصنع الإرهاب
بعد عملية التمرد الاخيرة قبل شهرين، عقد الناشط الحقوقي نبيل الحلبي، المتابع لقضايا الموقوفين الاسلاميين، مؤتمرا صحافيا مشتركا مع النائب السابق مصباح الاحدب، في مكتب مؤسسة "لايف"، التي يديرها، وطلب من وزارتي الداخلية والعدل تشكيل لجنة قضائية وحقوقية من أجل التحقيق في أعمال تعذيب وحشية حصلت في المبنى "د" في سجن رومية. يقول لـ "القبس": "عندها خرج علينا وزير الداخلية بمؤتمر صحافي مضاد، أعلن من خلاله انه لم تحصل اي أعمال تعذيب ضد أي سجين، واتهمنا بالمزايدات السياسية. اليوم يعترف الوزير المشنوق بواقعة التعذيب، وبالتالي لو قام بالتحقيقات اللازمة في حينها لما وصلنا الى هذا الأمر. نحن كمؤسسة حقوقية نحمل وزير الداخلية المسؤولية عن التستر على جريمة التعذيب وعلى المجرمين، وتضليل الرأي العام"، يقول الحلبي.
يتحدث الحلبي عما يعانيه الموقوفون في السجن، ويدفعهم الى التمرد من حين إلى آخر: حالة الاكتظاظ غير الطبيعية داخل الزنزانات، إضافة إلى حرمانهم من العناية الطبية، وإلزام عائلاتهم الفقيرة بشراء الأطعمة لهم من مطعم السجن، الذي يفوق السعر فيه أضعافا مضاعفة لما قد يشترونه من خارج السجن. تقصير أيام الزيارة ووقتها، والسبب الرئيس هو المماطلة في المحاكمة لأشهر وسنين.
يروي الحلبي لـ "القبس" أن المساجين يتم انزالهم باللباس الداخلي إلى المحكمة العسكرية، حيث يتم إعطاؤهم الثياب قبل المثول أمام القاضي. "إنهم يصنعون من الأشخاص الأبرياء وحوشا". علمًا أن الموقوفين ليسوا كلهم من الاسلاميين، فهناك لاجئون ومعارضون سوريون، يضيف الحلبي.
يكشف الحلبي أن من بين الذين أوقفوا لثماني سنوات من خرج بحكم براءة، والبعض حكم عليهم بشهر أو شهرين، علما انهم ظلوا قيد الاعتقال بانتظار محاكمتهم لثماني سنوات.
عملية غير بريئة
بالعودة الى شريط فيديو التعذيب الذي يظهر عناصر أمنية مولجة بحماية المساجين تقوم بطريقة وحشية بتعذيب بعض الموقوفين، ظهر منهم الشيخ عمر الاطرش من بلدة عرسال، الموقوف على خلفية تهم تتعلق بـ"نقل إرهابيين"، وموقوف آخر يدعى وائل الصمد، في حين يظهر التسجيل موقوفين آخرين، وقد تمت تعريتهم بشكل شبه كامل، ولأن الحادثة حصلت قبل نحو شهرين، اثر تمرد قام به الموقوفون، ازيحت واقعة التعذيب الى خلفية المشهد، ليبدأ التساؤل الملح: من أمر بالتسريب، ولماذا اختار التوقيت اليوم، واللبنانيون يتقوقعون في ولاءاتهم المذهبية، والشارع على أهبة الانفلات؟ صحيح أن التحقيقات الاولية أفضت الى توقيف عدد من العناصر الامنية المتورطة، لكن العملية برمتها أبعد ما تكون عن "خطأ فردي"، وهي على حد وصف وزير العدل أشرف ريفي عملية "غير بريئة وغير نظيفة" في شكلها وتوقيتها وفي الحملات الإعلامية المنظمة التي رافقَتها، مضيفاً أنها "تستهدف الاعتدال السنّي في لبنان ووحدة صفّهم وشعبة المعلومات وأمن البلد وعلاقتي المميّزة مع وزير الداخلية، فنحن من مدرسة واحدة".
في اولى ردود الفعل صب الشارع السني غضبه على وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي انتهج منذ بداية عمله الحكومي سياسة تقارب واضح مع حزب الله. اشتعلت ضده مواقع التواصل الاجتماعي وظهر هاشتاغ "أقيلوا جلاد رومية" في الوسط السني تحديدا، قابلتها حملات مؤيدة من مواقع قريبة من حزب الله رأى فيها بعض المحللين انها لا تهدف الى دعمه بقدر ما تهدف الى "اغتياله" سياسيا في بيئته. قيل ان التسريب يدخل ضمن اطار التنافس على رئاسة الحكومة العتيدة بين صقري المستقبل، المشنوق وريفي، وان عملية خبيثة تدار ضد المشنوق من داخل بيته السياسي أي تيار المستقبل نفسه، الا ان زعيم التيار سعد الحريري قطع هذه الشكوك، مبدياً دعمه للمشنوق.
المشنوق من جهته، اعلن ان التحقيق مستمر ولن يتوقف قبل صدور احكام بحق المرتكبين، مشددا على ان النيل من هيبة جهاز الامن الداخلي سوف يساهم في انعاش التطرف، وهدم مؤسسات الدولة التي لن ينجوا منها هم انفسهم.
يغذي التطرف
هيئة العلماء المسلمين في طرابلس كانت الأنشط حراكا في ردة فعلها على الشريط المسرب. اقامت سلسلة تحركات احتجاجية من ضمنها صلاة جامعة في باحة معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس، تخللتها كلمات نددت بالانتهاكات وحملت الحكومة مجتمعة مسؤولية ما جرى في سجن رومية. عضو الهيئة الشيخ نبيل رحيم يقول لـ" القبس" إن الهدف من تحرك الهيئة ليس تأجيج الشارع، بل السعي الى وقف التعذيب وتحسين الأوضاع الانسانية للسجناء "مطلبنا ليس مستحيلا. هذا حق من حقوق السجين".
ما حصل من انتهاك وظلم تشمل مسؤوليته الجميع، بحسب رحيم. "هي نتيجة تراكمات، وليست وليدة الساعة. فالسجين تبدأ معاناته ومعاناة أهله منذ لحظة توقيفه. كل الاطراف مسؤولة عن استمرار تردي الاوضاع من سياسيين ومدنيين وحقوقيين، والمطلوب تضافر كل الجهود من اجل انقاذ كل السجناء من الانتهاكات، وليس الموقوفين الاسلاميين فقط".
عن الهدف من نشر الفيديو في الوقت الحالي، وما اذا كان الهدف منه رمي الشارع السني في احضان التطرف وضرب الاعتدال يقول رحيم: "بغض النظر عن الهدف واذا كان بريئا أم مقصودا، فان نشر ما يعانيه الموقوفون الاسلاميون من معاملة سيئة وذل واهانات، لا شك سيغذي التطرف ويدعم نظرية المتطرفين ان العنف هو وسيلة التغيير".
سلسلة من أعمال الشغب شهدها السجن -
سجن رومية المركزي الذي اخذ اسمه من بلدة رومية شرق بيروت هو اقدم سجون لبنان وأفضلها بالمقارنة مع السجون الأخرى والتي يبلغ عددها 20 سجناً موزعة على الأراضي اللبنانية. وهو عبارة عن مبنى يضم المحكومين والموقوفين، كما يوجد معهد للأحداث، يستوعب السجن حاليا ضعفي طاقته ويحوي نحو 5000 سجين فيما هو معد لاستقبال 1500. تتسع الزنزانة لـ3 أشخاص ويحشر داخلها 7 أو 8 أشخاص.
شهد سجن رومية منذ عام 2008 وحتى تاريخه سلسلة من أعمال الشغب وحالات التمرّد ولا سيما المبنى "د" الذي يضم الموقوفين الإسلاميين. كل حركات التمرد قُمعت وأدت الى قتلى وجرحى من دون أن تحقق مطالب السجناء في تغيير ظروفهم المعيشية، لا بل كانت الأمور تسوء أكثر وهو ما اوصل إلى حركات تمرد أكبر وأخطر، كما حدث في 2 ابريل 2011، حين أقدم ثلاثة شبان في قسم الموقوفين الجناح "ب"، على تشطيب أجسادهم بآلات حادة، نقلوا على اثرها إلى مستشفى ظهر الباشق للمعالجة وسجل سقوط أربع ضحايا. وفي العشرين من ابريل الماضي نفذت القوى الامنية على مدى ايام عملية "انهاء التمرد" الذي قام به الموقوفون الاسلاميون في السجن. قاد وزير الداخلية نهاد المشنوق العملية التي تكللت بالنجاح واستحقت ثناء خصومه قبل حلفائه.
(القبس الكويتية)