قد يختلف اللبنانيون، افقيًا وعموديًا، على أمور كثيرة، في السياسة وفي الحصص وفي قسمة الجبنة، لكنهم لا يختلفون على توصيف الحالة الإقتصادية، التي يرون أنها مقبلة على مزيد من التقهقر والإنكفاء، في غياب الرؤية الإقتصادية الواضحة والهادفة معًا، وفي ظل إستمرار تعاطي المسؤولين بخفة ما بعدها خفة، وكأن البلد يعيش في احلى حالاته وفي ترف ما بعده ترف، وكأن لا مشاكل بنيوية تتراكم فوق رؤوس اللبنانيين، يومًا بعد يوم، من دون أن يرف لهؤلاء المسؤولين، أو معظمهم لئلا نقع في خطأ التعميم، جفن أو ينشغل بالهم على المصير، وإلاّ لكانت الحكومة المتعثّرة خطواتها قد تشكلت حتى قبل تكليف الرئيس الحريري، الذي لا يزال على تفاؤله بقرب الولادة، من دون أن يقدّم الدليل الذي يدحض الأجواء التي تستبعد قرب إنفراج على الخط الحكومي.
ومع كل إستحقاق سياسي أو إقتصادي تعود مسألة سعر صرف الليرة اللبنانية إلى الواجهة، مع ما يرافق ذلك من موجات تشكيك بقدرتها على الصمود في وجه الدولار، على رغم أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لا يترك مناسبة ولا فرصة إلاّ ويؤكد أن لا خوف على الليرة وأن التدابير المتخذة من قبل الهيئات المصرفية تؤّمن لليرة ثباتها في وجه التحديات، إلاّ أن هذه التطمينات لا تقنع كثيرين ممن يخالفون وجهة نظر "الحاكم" ويبدون مخاوفهم من المستقبل المجهول، ماليًا وإقتصاديًا، فهل هذه المخاوف في مكانها وهل هي مبرّرة أو محقّة، وهل ستصمد الليرة اللبنانية أمام كل هذه التحديات؟
ربّ قائل إن مخاوف اللبنانيين على سعر صرف الليرة قد تكون مُبرّرة نظرًا إلى ما ذاقوه من لّوعات منذ بداية الحرب في لبنان وما تركته من آثار سلبية على الوضعين الإقتصادي والمالي، مع ترافق الركود الداخلي مع حركة متراجعة عالميًا وإقليميًا.
فعند تسلّم رياض سلامة حاكمية مصرف لبنان، لم يكن لديه هدف أسمى من تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، وهو لا يزال حتى هذه اللحظة، وعلى رغم كل الصعوبات، مؤمنًا بأن الليرة هي أقوى من أن تنال منها الشائعات المغرضة، مع إعتراف جميع الخبراء الماليين بأن خطة الحاكم واجت صعوبات كثيرة، وهي لا تزال ماثلة أمام العيان، وعند كل مفرق طرق ومع كل إستحقاق داهم.
ويقول بعض الخبراء الماليين أن أول صعوبة واجهت سلامة تستند إلى النظرية الإقتصادية التي تقول إن العملة تعكس الثروة الوطنية ، أي ممتلكات الدولة وثرواتها الطبيعية وإقتصادها وكل البنى التحتية والفوقية، بمعنى أخر أن الدولة كل ما كانت غنية كل ما كانت العملة قوية والعكس بالعكس، وهنا يُطرح أكثر من سؤال عن الثروات الطبيعية للبنان، وعما إذا كانت الدولة إستطاعت أن تستثمرها في مجالات النمو الإقتصادي والمالي، أم أنها تركتها رهينة السمسرات والصفقات؟
أما المُشكلة الثانية التي تواجه الحاكم فهي مُشكلة الثبات السياسي والأمني، والذي يؤثرّ حكمًا على الإستثمارات بما فيها الإستثمارات الأجنبية المباشرة وبالتالي على ميزان المدفوعات، أي على الليرة اللبنانية.
وتتمثل المُشكلة الثالثة بإحتياط منخفض من العملات الأجنبية، وبالتالي، فإنه في ظل هشاشة الإقتصاد وعدم الثبات الأمني والسياسي، تبقى الليرة اللبنانية عرضة للإهتزاز، على رغم الجهود المبذولة لجعلها صامدة قدر الإمكان في إنتظار تفعيل مساهمات مؤتمر "سيدر 1"، وما يمكن أن يكون للمشاريع الإستثمارية من فائدة على صعيد تحريك الحركة الإنمائية في البلاد وإعادة الحيوية إلى القطاعات الإنتاجية .
ووفق الخبراء المعنيين بالشأن المصرفي فإن مصرف لبنان أعتمد إستراتيجية مبنية على نقطتين :
أولًا – خلق إحتياط كبير من العملات الأجنبية يسمح بدعم الليرة اللبنانية ويكون صمّام أمان وأداة بيدّ المصرف المركزي للتدخل في الأسواق بشكل لا يكون هناك من مضاربين قادرين على مواجهته.
ثانيًا – تأمين تمويل كافٍ لدعم الإقتصاد بشقيه الإستثماري والإستهلاكي مع ثبات هذا التمويل مما يسمح بثبات كلفة الإقتراض أي سعر الفائدة.
فأيًّا تكن الإجراءات التي يتخذها المصرف المركزي للحفاظ على ثبات سعر الليرة اللبنانية تبقى محدودة الفعالية على المديين المتوسط والطويل إذا لم تواكبها إجراءات سياسية تعيد للمواطن ثقته بدولته وبما تتخذه من خطوات إنقاذية سريعة وفاعلة، والاّ يكون حديث الصالونات عن الوضع المالي مجرد تسلية وتمضية الوقت، لأن هذا الوقت لن يكون لمصلحة أحد.