منذ أن انطلقت شبكة البيتكوين قبل ستة عشر عاماً، روّج كثيرون لها على أنها نقود رقميّة «مُقاوِمة للرقابة» تُشبه تداول الأوراق النقديّة في حريّتها، لكنّ مسار التطوّر التقني والتنظيمي أثبت أنّ الحكاية أكثر تعقيداً. ففي اللحظة التي نكتب فيها، ومع التقلّبات الحادّة التي يعرفها سعر البيتكوين اليوم مقارنةً بذروة أواخر 2024، أصبح سؤال الخصوصيّة محوراً أساسياً لكل مستثمر أو مطوِّر أو حتى مشرّع يبحث عن توازن بين الشفافيّة ومقتضيات الأمان المالي. سأستعرض في هذا المقال – ببيانات محدثة حتى منتصف 2025 – موقع البيتكوين على خريطة الخصوصيّة، والتقنيات التي تحاول جسر
الفجوة بين الحاجة إلى السرية ومبدأ السجل العامّ المفتوح، مع مقارنة «عميقة» بعملات أخرى وُلدت أساساً لتحلّ هذه المشكلة مثل مونيرو (XMR) وزيكاش (ZEC).
الخصوصيّة المزعومة: بين «اسم مستعار» والشفافية المطلقة
يعتمد البيتكوين على بلوكشين عام يُسجِّل كل معاملة منذ كتلة التكوين عام 2009. صحيح أنّ العناوين لا تحوي اسماً حقيقياً، لكن سلسلة من التطورات على مدى العقد الأخير – أشهرها أدوات تحليل السلاسل التي تقدّمها شركات مثل Chainalysis وElliptic – حوّلت هذه الشفافية إلى أداةٍ قوية للتعقُّب. بفضل خوارزميات تتبُّع الأنماط، وربط العناوين بهويّات مُوثّقة في منصّات التبادل أو حتى بعناوين
بروتوكول الإنترنت (IP) أثناء بثّ المعاملة، أصبحت كلمة «مجهول» وصفاً مضلِّلاً نوعاً ما.
مع نهاية 2024، أظهر مسح لمعهد Cambridge Centre for Alternative Finance أنّ أكثر من 72 ٪ من معاملات البيتكوين المُرسلة من بورصات كبرى في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة صُنِّفت «قابلة للتعريف» بفضل إلزامية إجراءات “اعرف عميلك” (KYC). هذا يضرب قلب «قابليّة الاستبدال» (Fungibility): إذا عُرف أن العملات التي تملكها ارتبطت سابقاً بمبالغ مسروقة أو نشاط غير قانوني، فقد ترفض بعض البورصات إيداعها أو تطالبك بتوثيق إضافي، حتى لو وصلتك بحسن نيّة.
تطوّرات 2025 داخل بروتوكول البيتكوين
Taproot وتفرُّعاته (Post-Taproot Enhancements): بعد تفعيل Taproot في 2021، رأينا تدرُّجاً في استخدام المخرجات من نوع P2TR. في 2025 تجاوزت نسبة هذه المخرجات 25 ٪ من كتل الشبكة، ما يقلّص بيانات السيناريوهات المتعدّدة التوقيع في السلسلة ويجعل المعاملات المعقّدة تبدو شبيهة بالقياسية. ومع ذلك تبقى القيمة المُرسَلة مكشوفة، ولا تزال إعادة استخدام العنوان خطراً.
BIP-324 (Encrypted P2P Transport v2): النسخة التجريبية التي طُرحت مطلع 2025 وفّرت لمالكي العُقد خيار تشفير حركة المرور بين النظائر. هذا التطوير لا يحجب المعاملة نفسها عن البلوكشين، لكنه يمنع المزودين أو مراقبي الشبكة من ربط توقيعك الشبكي بمعامَلة محدّدة.
المعاملات V3 وسياسة «Anchors» جديدة: بعد نقاشات طويلة حول هجمات «التعويض» (RBF abuse) صدر إصدار 25.0 من Bitcoin Core بدعم مبدئي لمعاملات V3. أهمّ ما في V3 هو القدرة على تحديد «تكاليف» واضحة للرسوم قبل البثّ وتقليل الإشارات الجانبية عن توقيت النفقات.
Silent Payments (BIP-352): نُدمج على نطاق تجريبي في محافظ متقدّمة مثل Sparrow ومحافظ الأجهزة TAPSIGNER. تتميّز بأنها تمكّن المُستقبِل من نشر عنوان ثابت واحد، بينما يُنشئ المُرسِل عنواناً فريداً غير قابل للربط في كل مرة، فيقلّ احتمال ربط إيداعاتك حتى لو شاركت عنوان التبرعات في العلن.
شبكة Lightning ودورها في الإخفاء الجزئي
شبكة البرق تطوّرت بدورها، إذ وصل إجمالي السيولة المُقفلة في القنوات العامة إلى نحو 10,000 BTC في الربع الثاني من 2025 رغم السوق الهابطة. الميزة المركزيّة للخصوصيّة هنا هي أنّ المدفوعات تتمّ «خارج السلسلة»: لا تُحفظ القيمة الفعليّة لكل دفعة في البلوكشين، بل تُسجَّل فقط أحداث فتح وإغلاق القناة. غير أنّ ثمّة قيوداً عمليّة:
- لم تُحل مشكلة خصخصة المُرسل بالكامل؛ فالمُراسلون المتقدّمون قد يستنتجون مصدراً أو وجهة إذا امتلكوا عُقدة وسيطة تسيطر على قدر كبير من السيولة.
- الإغلاق الإجباري لقناة متنازَع عليها ما يزال يكشف تفاصيل بعض المعاملات.
- فتح قناة كبيرة قد يُظهِر تحرُّكات رأس مال ملفتة للنظر بما أنّ فتح القناة ذاته يظهر كسطر واحد على السلسلة.
- التشغيل الذاتي للعقدة الكاملة مع تفعيل BIP-324: بذلك تمنع مبدئياً ربط عنوان IP بمعاملاتك.
- البثّ عبر Tor أو I2P لإضافة طبقة إخفاء شبكة؛ لا تعتمد على VPN تجارية فقط.
- CoinJoin مع تنويع المجموعات: استخدم Whirlpool أو JoinMarket، لكن بكتل خلط بأحجام مختلفة لتقليل «بصمة الاختلاط النمطية» التي تسهّل على المُحلِّل تمييزك.
- استعمال Silent Payments عندما يتاح، خصوصاً للتبرعات أو استقبال الرواتب دون كشف السجل لكل مَن يملك عنوانك.
- التحويل إلى مونيرو أو زيكاش عند الحاجة القصوى ثم العودة، مع إدراك أن هذا المسار قد يرفع تكاليف الامتثال إذا أردت إيداعاً لاحقاً في منصّة متشددة.
- القناة الخاصة في شبكة Lightning: افتح قنوات بتمويلات غير ملفتة، وحافظ على دورات تصفية قصيرة لتجنّب اضطرارك إلى إغلاق قسري معلن.
- التفرقة بين هويات الإنفاق (Coin Control): لا تخلط نفقاتك الشخصية مع الإيرادات التجارية في محفظة واحدة تحت عنوان واحد.
على مستوى البحث، نرى زخماً في اقتراحات مثل FROST وMuSig2 لتجميع التوقيعات بتكلفة أقل، و«تجميع التوقيع عبر المدخلات المتعددة» (CISA) الذي قد يسمح لاحقاً بضغط معاملات متعددة المدخلات في هيكل أبسط؛ كلاهما يُحسِّن الكفاءة ويعقّد عمل محلّل السلاسل. كذلك يختبر مطوّرون طبقة ثانية مبنية على إثباتات عدم معرفة (zk-Rollups) تنشر فقط الجذر المُجمَّع في البيتكوين، ما قد يتيح مستوى إخفاء شبيه بزيكاش لكن من دون التضحية بإجماع البتكوين. بيد أن أي تغيير جذري يحتاج توافقاً واسعاً، وهو أمر يتطلب سنوات في مجتمع مشهور بالحذر تجاه الترقيات الصلبة.
خاتمة
في 2025 لا يمكن وصف البيتكوين بعملة «خاصّة» بالمعنى الدقيق؛ هو سجلّ عام ثمين لشفافيّته، لكن من أجل الخصوصيّة عليك بذل جهد واعٍ: تشغيل عقدتك الخاصة، استخدام وسائل إخفاء شبكة، والمشاركة في بروتوكولات خلط أو قنوات البرق بصورة منضبطة. التطوّر المستمرّ، من Taproot حتى Silent Payments، يشير إلى رغبة عميقة في تحسين الوضع، لكنه يتحرك بخطى محكومة بضرورة عدم المساس بتوافق المجتمع والجهات التنظيميّة على حد سواء. في المقابل تقدّم مونيرو خصوصيّة شاملة لكنّها تدفع ثمنها في السيولة والقبول المؤسّسي، بينما توازن زيكاش بين إثباتات متقدمة وكلفة إدماج بطيئة.