مشهد هو من بين مشاهد كثيرة، حيث جلس مسؤولون في "التيار الوطني الحر" جنبًا إلى جنب مع مسؤولي "القوات اللبنانية" في كنيسة مار جرجس في جبيل في مراسم وداع المغدور باسكال سليمان. أن يجتمع المسيحيون فقط في الجنازات، وبعدها يذهب كل فريق منهم في طريقه، أمر غير عادي، ولا يقبله المنطق السوي ولا يسّلم به. وهل قدرهم أن يتعاضدوا فقط في الاحزان والاتراح، وأن يؤازر الواحد منهم الآخر فقط في الملمات؟
لم يكن هكذا تاريخهم عندما شعروا بأن الخطر يهدّد لبنان ووجودهم كقيمة حضارية وإنسانية في هذه المنطقة، فرأينا الأقطاب الموارنة الثلاثة: كميل شمعون وبيار الجميل وريمون أده يجتمعون في حلف ثلاثي لمواجهة السياسة التي كانت متبعة في ذاك الوقت، والتي رأوا فيها ما يتعارض مع نظرتهم إلى لبنان، على رغم الاختلاف في وجهات نظر هؤلاء الأقطاب الثلاثة.
وكذلك فعل المسيحيون يوم اجتمعوا في جبهة لبنانية واحدة بمبادرة من الاباتي شربل قسيس، ومن بعده الاباتي بولس نعمان، وضمت كلًا من الرئيسين كميل شمعون وسليمان فرنجية، قبل انسحابه منها احتجاجًا على حادثة أهدن، فضلًا عن الشيخ بيار الجميل والنائب أدوار حنين وكلًا من شارل مالك وفؤاد افرام البستاني وجواد بولس، وقد انضم إليهم لاحقًا الشيخ بشير الجميل وداني شمعون.
أمّا اجتماعهم الثاني فكان في "لقاء قرنة شهوان" بمباركة مباشرة من البطريرك الرحل مار نصرالله بطرس صفير، الذي أوكل إلى المطران يوسف بشاره مهمة الاشراف المباشر على هذا التجمّع السياسي، الذي أسس لنداء المطارنة الموارنة في العام 2000، والذي مهدّ لحركة الاستقلال الثاني، على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فتطور "لقاء قرنة شهوان" المسيحي إلى لقاء وطني جامع في "البريستول"، أسس لحركة 4 آذار، التي كانت حالة استثنائية في تاريخ العلاقات اللبنانية – اللبنانية.
بداية "انفخات الدف" كانت بانسحاب "التيار العوني" من "لقاء البريستول"، وتفردّه بتوقيع اتفاق مع "حزب الله" سمي "اتفاق مار مخايل"، بالتوازي مع نمو العدائية بين "العونيين" و"القواتيين" على خلفية "حرب الإلغاء". وقد استمرّت هذه الحال إلى أن كان "اتفاق معراب"، الذي توجّ أفاق "أوعى خيّك"، لكن هذا الاتفاق سقط عند أول امتحان لـ "التيار الوطني الحر" في السلطة بعدما تسلم العماد ميشال عون مقاليدها.
لفتني كلام لراعي أبرشية الروم الملكيين الكاثوليك في كندا المطران ميلاد جاويش، الذي قال في احدى المناسبات العامة، إن المسيحيين في لبنان يقوون عندما يقوى الموارنة، ويضعفون عندما يضعف الموارنة. هذا الكلام ذكرّني بكلام مشهور للأرثوذكسي شارل مالك، الذي حدّد بعشرة بنود دور الموارنة في الشرق ولبنان الذي أعطي لهم شعبًا وتراثاً وقيمًا، وقال: "لقد أعطي الموارنة كثيرًا ولذلك يُطلب منهم الكثير:
أُعطوا، أولاً، هذا الجبل العظيم. جبل لبنان اسم من أعطر الأسماء في الكتاب المقدس وفي التاريخ.
أعطوا ثانيا، لبنان شعبًا وتراثاً وقيمًا. لا يمكن فصل شعب لبنان وقيمه وتراثه عن جبل لبنان.
ثالثًا أعطوا بلدًا مجتمعه حر، تعددي، والمسيحية فيه حرة.
أعطوا رابعًا بكركي، هذا المركز الروحي الفريد في الشرق الأوسط.
خامسًا، أعطي الموارنة تراثاً آراميًا سريانيًا عريقاً. يربطهم هذا التراث، تاريخيًا وثقافيًا ودينيًا، بمتبقيّات الحضارة الآرامية العظيمة في هذا المشرق.
سادسًا، أعطوا طقسًا ليتورجيًا عظيمًا.
سابعًا، أعطي الموارنة هذا الارتباط الوثيق بروما.
ثامنًا، أعطوا تاريخًا موحّدًا، منفصلاً، قائمًا في حد ذاته، محدّد المعالم. لا تتمتع أي فئة أخرى في لبنان، بل لربما في أوسع من لبنان، بهذه الصفة المُعطاة.
تاسعًا: بسبب سريانيتهم، أعطي الموارنة، فوق إمكان ربط أنفسهم بالعالم السرياني الحي، أن يكون أقرب الناس، مزاجيًا وتراثيًا، الى العرب واليهود معًا. اللغة أهم ظاهرة حضارية، لأنها بأعمق معانيها هي الحياة، تُعيّن الجذور والأصول والتراث، تُعيّن وشائج القربى.
عاشرًا: أعطوا القدرة على العطاء، فمن من أسهم في النهضة العربية الحديثة في المئتي سنة الماضية في شتى الحقول أكثر من الموارنة؟
وختم: "ليس أسهل من تبيان نقائص الموارنة، وهم أنفسهم في تبيانها كل يوم مسرفون. وأحيانًا أشفق عليهم في تمزيقهم لأنفسهم".
ما حصل في انتخابات نقابة مهندسي بيروت أكبر دليل على ما خلص إليه كبير من بلادي اسمه شارل مالك.