تعيش الساحة
اللبنانية مرحلة شديدة الحساسية، في ظل تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية لوقف الاشتباك العسكري في الجنوب، ورسم معادلة جديدة بين الدولة والمقاومة. في هذا السياق، برز مطلب الرئيس الأميركي
دونالد ترامب تجاه
لبنان، والذي تضمن دعماً لشعار دولة واحدة، جيش واحد باعتباره الإطار الأمثل لتوحيد القرارين العسكري والأمني تحت سلطة الدولة اللبنانية. وقد عبر المبعوث الأميركي توم براك عن ارتياحه لبدء الحكومة في تطبيق هذا الشعار ولو تدريجياً، معتبراً ذلك خطوة أولى نحو إعادة رسم موازين القوى في الداخل.
في المقابل، يتمسك
حزب الله بموقف ثابت يقضي بعدم طرح أي سيناريو واضح للمرحلة المقبلة قبل التوصل إلى تفاهم شامل مع الدولة، محذراً من أن أي فرض لحلول أحادية أو شروط تمس سلاحه سيؤدي إلى تعقيدات داخلية وخارجية. وقد عبر رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، عن هذا الموقف بوضوح حين أكد أن "الموت أفضل من تسليم السلاح"، معتبراً أن أي محاولة لنزع سلاح
المقاومة ستفتح الباب أمام ارتدادات غير محسوبة على الوضع الداخلي، وقد تهدد الاستقرار الوطني.
وحتى تحين ساعة الصفر، فإن رفض حزب الله تسليم سلاحه يضع المؤسسة العسكرية أمام معادلة بالغة الدقة، إذ سيجد الجيش نفسه بين ولائه للدولة وحرصه على تنفيذ قراراتها من جهة، وبين إدراكه لخطورة الصدام مع قوة عسكرية وشعبية بحجم الحزب من جهة أخرى. تاريخياً، اعتمد الجيش سياسة الاحتواء والتنسيق الميداني لتفادي الانقسام الداخلي أو إشعال فتيل الفتنة، لكن أي ضغط داخلي أو خارجي لإجباره على نزع السلاح بالقوة قد يضعه أمام خيارات صعبة: إما الامتثال وما يحمله من مخاطر أمنية واجتماعية، أو الامتناع وتحمل تبعات سياسية ودبلوماسية. وفي كل الأحوال، يبقى الجيش متمسكاً بدوره كضامن للاستقرار، ما يجعله أقرب إلى البحث عن تسويات وصيغ وسطية بدل الانخراط في مواجهة مباشرة تهدد وحدة المؤسسة والدولة معًا.
وبحسب مصدر سياسي بارز، فإن المعادلة الأمثل تقوم على بقاء المقاومة في كنف الدولة، من دون مشروع خاص خارج مؤسساتها، على أن يكون قرار السلم والحرب حصرياً بيد الدولة اللبنانية. ورغم أن هذا الطرح يبدو نظرياً أرضية صالحة للتوافق، إلا أنه يصطدم بعقبات عملية، أبرزها انعدام الثقة بين بعض المكونات السياسية والحزب، إضافة إلى الشكوك
الإسرائيلية والأميركية بشأن مدى
التزام الحزب بتسليم القرار العسكري بالكامل للمؤسسات الرسمية.
وتؤكد أوساط سياسية أن المقاومة لا تسعى إلى حكم البلد أو السيطرة على قراره، بل تريد البقاء تحت سقف الدولة، شرط أن يكون قرار الحرب والسلم بيد مؤسساتها المستقلة غير المرتهنة للخارج. لكن التحدي الأكبر يظل داخلياً، إذ ترى قوى سياسية أن سلاح المقاومة عبء، وتبحث عن أي فرصة للتخلص منه، وهناك أيضاً أطراف تراهن على الضغوط الأميركية والإسرائيلية لتحقيق ما لم تستطع تحقيقه في السياسة أو الميدان.
والثابت أنه إذا تعذر التفاهم بين حزب الله والدولة على صيغة مشتركة، فإن البدائل قد تكون أكثر تعقيداً، إذ ستنشأ إشكاليات على ثلاثة مستويات: أولًا، مع الدولة اللبنانية التي ستجد نفسها أمام سلاح خارج قرارها المباشر، ثانياً، مع المكونات السياسية الداخلية، وثالثاً، مع
إسرائيل والولايات المتحدة اللتين تعتبران استمرار سلاح المقاومة عقبة أمام أي تسوية شاملة أو استقرار طويل الأمد على الحدود.
الأيام المقبلة ستكون مفصلية، حيث من المقرر أن يصل هذا الشهر إلى
بيروت المبعوث الأميركي توم براك، وسط توقعات بأن تحمل الاتصالات الأميركية مؤشرات حول مدى استعداد إسرائيل لوقف عملياتها العسكرية، الأمر الذي سيشكّل اختباراً جدياً لإمكانية الانتقال إلى مرحلة التهدئة. وفي المقابل، فإن أي رفض إسرائيلي أو تصلّب داخلي من الأطراف المعنية قد يدفع الأمور نحو مزيد من التعقيد وربما التصعيد وسيضع الحكومة اللبنانية في موقف حرج.
إن ما يجري ليس مجرد نقاش داخلي حول السلاح أو توزيع الصلاحيات، بل هو اختبار شامل لقدرة
الدولة على صياغة معادلة جديدة تحفظ الأمن والسيادة، وتوازن بين متطلبات المقاومة وضوابط الدولة. وإذا فشلت هذه المعادلة، فإن لبنان سيكون مهددا بالعودة مجدداً إلى دوامة أزمات لا تنتهي.