Advertisement

لبنان

"جرحُ العمر".. عن الموت الذي يهزّ النفس والجسد

مايا دعيبس طه - Maya Daibess Taha

|
Lebanon 24
18-10-2025 | 04:30
A-
A+
Doc-P-1430936-638963802567351309.jpeg
Doc-P-1430936-638963802567351309.jpeg photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
الفقد تجربة إنسانية عميقة، لا مفر منها في حياة أي شخص. قد يكون الفقد على شكل موت عزيز، أو فراق صديق، أو خسارة حلم، وظيفة، أو حتى وطن. مهما اختلفت أسبابه، يبقى أثره واحدًا: جرحًا داخليًا يترك ندبات على النفس والجسد معًا. وفي مجتمعاتنا التي تعوّدنا فيها على الصبر والصمود، كثيرًا ما يُغفَل الحديث عن الألم الشخصي الذي يولّده الفقد، رغم أنه يغيّر حياة الأفراد بشكل جذري.
Advertisement

الأثر النفسي للفقد

أول ما يواجهه الإنسان بعد الفقد هو الصدمة. في لحظة ما، يبدو وكأن الزمن توقف، والعقل يرفض استيعاب الحقيقة. بعد الصدمة، تبدأ المشاعر بالتدفق: حزن عميق، غضب، شعور بالذنب، أو حتى إنكار. علم النفس يصف هذه المراحل بما يُعرف بـ "مراحل الحزن الخمس"، التي تشمل الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، ثم القبول. لكن هذه المراحل لا تسير دومًا بالترتيب ذاته، ولا يمر بها الجميع بنفس الشكل.

الدكتورة غدير جميل، أخصائية نفسية، تشرح قائلة: "الحزن حالة طبيعية مرتبطة بالحدث، لكن الخطر يظهر عندما يتحوّل إلى اكتئاب طويل الأمد يعطّل قدرة الفرد على القيام بمهامه اليومية. هنا نتحدث عن ما يُعرف بالحزن المعقّد، وهو ما نصادفه لدى نحو 10–20% من الأشخاص الذين يفقدون عزيزًا."

وبحسب الجمعية الأميركية للطب النفسي (APA)، فإن الحزن المعقّد يستمر لفترات طويلة ويؤثر في العمل والعلاقات.

الأثر الجسدي للفقد

ليس من المبالغة القول إن الجسد يتكلم بلسان الحزن. كثيرون يشعرون بعد الفقد بتعب متواصل، ضعف في المناعة، صداع، أو آلام متنقلة في الجسد بلا سبب عضوي واضح.

توضح الدكتورة جميل أن "الصحة النفسية والجسدية مترابطتان بشكل وثيق. التوتر والقلق يغيّران في مستويات الهرمونات والنواقل العصبية، وهذا يؤدي إلى أعراض جسدية تُسمى بالأمراض السيكوسوماتية (psychosomatic)، أي أنها جسدية المنشأ لكن أساسها نفسي."

وفي دراسة أجرتها جامعة هارفرد عام 2014 وجدت أن الأشخاص الذين فقدوا شريك حياتهم كانوا أكثر عرضة بنسبة 41% للإصابة بمشاكل في القلب أو السكتات الدماغية خلال الأشهر الأولى بعد الفقد.

كما أظهرت أبحاث أخرى أن الضغط النفسي الناتج عن الحزن يرفع مستويات هرمون الكورتيزول، ما يضعف الجهاز المناعي ويزيد احتمالية الإصابة بالالتهابات والأمراض المزمنة.

الدعم الاجتماعي والديني

تلعب الروحانيات والدعم الاجتماعي دورًا جوهريًا في مواجهة الفقد. تقول جميل في هذا الخصوص: "الجانب الروحي يحصّن الإنسان من الانهيار النفسي. الإيمان بأن الموت حق، والتقرب من الله بالدعاء، يساعدان على التقبّل."

وتؤكد جميل أن الدعم الاجتماعي ضروري جدًا، لأن الوحدة تُغذّي الأفكار السلبية بينما المشاركة والتفريغ الانفعالي مع شخص موثوق تخفف من وطأة الحزن.

وتضيف بعض النصائح العملية: 
- التقرب من الله عز وجل والدعاء 
- ⁠الجلوس مع أشخاص إيجابيين وتجنب المحيط السلبي 
- ⁠ عدم اجترار الذكريات المؤلمة طوال الوقت
- ⁠التحدث مع صديق أو قريب للتعبير عن المشاعر بدلًا من الكبت
- ⁠تعبئة الوقت وتجنب الفراغ الذي يفتح الباب أمام الحزن.


⁠كل شخص يعيش الفقد بطريقته. البعض يجد نفسه عاجزًا عن النهوض مجددًا، فيما يحوّل آخرون التجربة إلى فرصة لإعادة اكتشاف أنفسهم أو إعادة ترتيب أولوياتهم. 

تروي بتول، زوجة شهيد، لحظات الفقد الأولى حين استشهد زوجها فيما ابنتها لم تتجاوز الأربعة أشهر: "لم أصدق الخبر في البداية. كنت أقول في قرارة نفسي: مستحيل أن يرحل ويترك طفلته الصغيرة، لن يفعلها. لكن الحقيقة كانت أقسى من قدرتي على الاحتمال. كان عليّ أن أقف على قدميّ، أن أكون قوية من أجل ابنتي، وأن أقبل برحيله رغمًا عني. فجأة وجدت نفسي مضطرة لأن أكون الأم والأب في الوقت نفسه. لم أنسه ولن أنساه يومًا، لكنني أدركت أن الحياة يجب أن تستمر".

هنا الفقد لم يكن مجرد حزن عابر، بل تجربة أعادت تشكيل بتول من الداخل.

الفقد يوجع، لكنه أيضًا يكشف هشاشتنا وإنسانيتنا. لا أحد يخرج من هذه التجربة كما دخلها. الألم قد يتحول إلى طاقة داخلية، إلى دافع لفهم الذات أكثر، أو حتى لمساعدة الآخرين. الدعم الاجتماعي والعائلي هنا يلعب دورًا جوهريًا في تخفيف العبء، وكذلك طلب المساعدة من مختص نفسي عند الحاجة.

بحسب منظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن أكثر من 300 مليون شخص حول العالم يعانون من الاكتئاب، وغالبية الحالات تبدأ بعد صدمات حياتية كبرى مثل الفقد. هذه الأرقام تذكّرنا أن الحزن ليس ضعفًا فرديًا، بل تجربة إنسانية جماعية تستحق التفهّم والرعاية.

في النهاية، لا يمكن إنكار أن الفقد يترك ندبة دائمة. لكنه ليس نهاية الطريق. الزمن لا يداوي الجروح وحده، بل ما نفعله نحن خلال هذا الزمن هو ما يصنع الفرق. وبينما يبقى الغياب موجعًا، يبقى الحاضر فرصة للاستمرار، والتعلّم، ومنح الآخرين ما افتقدناه نحن.
مواضيع ذات صلة
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك

مايا دعيبس طه - Maya Daibess Taha