في ذكرى مرور عام على اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، الذي تخرقه تل أبيب كلّ يوم منذ إبرامه، تارةً تحت عنوان "حرية الحركة" وطورًا تحت عناوين "التصدّي لخطر" لا أحد يعرف مدى دقّته، اختار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يطلق تصريحات تثير المزيد من الجدل، وذلك من خلال قوله إنّ إسرائيل "عازمة على فرض اتفاقات وقف إطلاق النار حيثما وجدت بيد من حديد"، مضيفًا: "يمكنكم أن تروا ما يحدث يومياً في لبنان".
تفتح تصريحات نتنياهو هذه عن عزم حكومته "فرض وقف إطلاق النار في غزة ولبنان بيد من حديد"، فصلًا سياسيًا جديدًا في التعامل مع الجبهة
اللبنانية، فـ"وقف النار" المبرم عمليًا منذ عام كامل، والذي يُفترض أن يكون عنوان التهدئة، يُقدَّم هذه المرة كأداة قسرية، إن صحّ التعبير، تُستكمَل بها الحرب بأدوات أخرى، وتُربَط بمجموعة شروط لم ينصّ عليها الاتفاق أساسًا، أوّلها نزع سلاح "
حزب الله"، وآخرها إعادة رسم التوازنات داخل لبنان نفسه.
وبالتوازي مع كلام نتنياهو، عن "فرق وقف إطلاق النار"، كانت إسرائيل تواصل حربها "الأحادية" (من طرف واحد)، بل إنّها كثّفت في الساعات الماضية من ضرباتها من الجنوب إلى البقاع، مع موجات قصف استهدفت العمق اللبناني، فيما تكثّفت التسريبات عن "سلّة شروط" ثقيلة حملها وفد أميركي سياسي-أمني زار
بيروت هذا الأسبوع، من بينها ما يصل إلى حدّ "إنهاء حزب الله"، فما مدى دقّة مثل هذا الكلام، وهل ثمّة من يرفع سقفه التفاوضي مثلاً؟!
كيف يُقرَأ تهديد نتنياهو؟
صحيح أنّ إسرائيل تتصرّف منذ عام وكأنّ لا اتفاق لوقف إطلاق النار مع لبنان، بدليل اعتداءاتها اليومية، التي لم تلقَ حتى الآن الردّ المناسب واللازم من الدول الضامنة، إلا أنّ تصريحات نتنياهو عن "فرض وقف إطلاق النار بيد من حديد" تكشف مع ذلك تحوّلًا في الطريقة التي تسوّق بها إسرائيل لفكرة الهدنة. فبدل أن تكون نهاية طبيعية لدورة عنف، يجري تصويرها كمرحلة من مراحل الحرب نفسها.
هكذا تتحوّل "الهدنة" في قاموس نتنياهو إلى وقف للنار مشروط بتغييرات ميدانية وسياسية عميقة، سواء في غزة عبر تثبيت واقع جديد في الحكم والأمن، أو في لبنان عبر تقليص جذري لحرية حركة "حزب الله" وقدرته الصاروخية، وربما إبعاده عمليًا عن الشريط الحدودي، علمًا أنّ خطاب نتنياهو هذا ترافق مع تصعيد ميداني لم يعد يصلح وصفه بـ"الخرق"، بعدما أضحى "
القاعدة" على امتداد الأشهر الأخيرة.
في المقابل، يلتزم "حزب الله"، بقيادة أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، بوقف إطلاق النار من دون أي ردود عسكرية منذ إبرام الاتفاق، مكتفيًا بالتشديد السياسي والإعلامي على أنّ ما يجري هو خروقات إسرائيلية أحادية الجانب لوقف النار، مع تأكيده ترك إدارة الملف للدولة والمسار التفاوضي، رغم تلويحه مرارًا بأنّ "للصبر حدودًا"، وهو ما يبقى مُستبعَدًا إذا لم تلجأ إسرائيل نفسها إلى توسيع الحرب، باعتبار أنّ كل المؤشرات لا توحي بجهوزية الحزب لخوض المعركة.
الضغوط على لبنان مستمرّة
عمومًا، يمكن القول إنّ التوازي بين التهديد الإسرائيلي والمسار الأميركي يجعل لبنان الرسمي في قلب ضغط مركّب. يتجلّى ذلك بوضوح بالتسريبات التي تحدّثت عن "سلّة الشروط" التي حملها الوفد الأميركي خلال زيارته الأخيرة، والتي تبدأ من تجفيف منابع الحزب المالية، ولا تنتهي عند إعادة توزيع السلطة ومراكز النفوذ في بيروت، حتى إنّ بعض المعطيات أشارت إلى "مهلة زمنية ضيّقة" على اللبنانيين الالتزام بها، لتفادي الحرب التي تلوّح بها إسرائيل.
في مواجهة ذلك، يبدو لافتًا تمسّك رئيس الجمهورية جوزاف عون برؤيته للمخرَج، القائمة على مسار تفاوضي يرى فيه " السبيل الوحيد لتحقيق مصلحة البلاد العليا"، كما يقول في مؤتمراته وتصريحاته الأخيرة. ويفترض أن يقوم هذا المسار على ثلاث ركائز: حصر مهمة بسط السيادة بالجيش وحده من دون أي شريك مسلح؛ انسحاب إسرائيل من النقاط التي تحتلّها داخل لبنان؛ وتلازم وقف الاعتداءات مع إطلاق مفاوضات غير مباشرة، تقنية الطابع.
إلا أنّ هذه المقاربة تصطدم بإشكاليات تبدأ بموقف "حزب الله" من التفاوض، ولا تنتهي بمحاولة
واشنطن وتل أبيب فرض "سحب السلاح" شرطًا للجلوس على الطاولة. وهنا يبرز موقع الجيش كعامل حاسم، في ظلّ ضغوط مزدوجة تتعرّض لها المؤسسة العسكرية أيضًا، بين ضرورة الحفاظ على تماسكها الداخلي، وعدم الانجرار إلى صدام تريده إسرائيل، وبين الضغوط الخارجية التي تُقدَّم تحت عنوان "تطبيق القرار 1701" ومكافحة "الإرهاب".
في الحصيلة، يكشف الربط بين خطاب نتنياهو عن "وقف النار الحديدي"، وموجات التصعيد الميداني، والشروط الأميركية المتشدّدة، عن محاولة لصياغة معادلة جديدة للجبهة اللبنانية: لا حرب شاملة الآن، لكن لا هدنة مجانية أيضًا. بمعنى آخر، فإنّ ما يُطرح عمليًا هو وقف نار مشروط بتقييد عميق لقدرة "حزب الله" على العمل من الجنوب، وبمسار تفاوضي تريد تل أبيب وواشنطن أن يتحوّل إلى بوابة إعادة تشكيل التوازنات في لبنان.
أمام هذه الصورة، لا يبدو أن بإمكان "حزب الله" الاكتفاء بدور المتفرّج طويلًا، ولا أن بإمكان الدولة اللبنانية الاستمرار في سياسة الهروب إلى الأمام، ليبقى السؤال المفتوح بين التهويل بالحرب ووعود الهدنة: هل يُكتب للبنان أن يلتقط فرصة تفاوض متوازنة، أم يجد نفسه مجددًا على حافة تسوية قسرية تُفرَض عليه تحت هدير الطائرات ورسائل العقوبات؟