تصفّح بدون إعلانات واقرأ المقالات الحصرية
|
Advertisement

لبنان

شتاء بلا خطط طوارئ... القرى الحدودية بين البقاء والمخاطر اليومية

مهدي ياغي - Mahdi Yaghi

|
Lebanon 24
19-12-2025 | 02:30
A-
A+
Doc-P-1457280-639017307466542293.jpg
Doc-P-1457280-639017307466542293.jpg photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
في القرى الحدودية جنوب لبنان، يُستقبل الشتاء باعتباره مرحلة إضافية من الضغط اليومي على السكان، لا مجرد فصل مناخي. ففي منطقة لم تتوقف فيها تداعيات العدوان الإسرائيلي، ولم تستقر فيها الأوضاع الأمنية أو المعيشية، يأتي البرد ليضاعف الأعباء القائمة، ويكشف هشاشة الواقع الاجتماعي والاقتصادي، في ظل غياب واضح للدولة وضعف أي استجابة رسمية شاملة.
 
هذه السنة، تواجه القرى الجنوبية الشتاء من واقع متضرر أصلاً. منازل أصابها القصف ولم تُرمَّم، أو خضعت لإصلاحات جزئية لا تصمد أمام الأمطار، بنى تحتية محدودة القدرة، كهرباء متقطعة، وموارد معيشية آخذة في التراجع. ومع كل منخفض جوي، يتحول السؤال الأساسي من الطقس إلى القدرة على الاستمرار في العيش داخل هذه القرى، وسط معادلة غير متوازنة تجمع بين اعتداءات متكررة، أزمة اقتصادية عامة، وتقصير رسمي مزمن.
 
لا يقتصر ثقل الشتاء في الجنوب على البرد وحده، إذ يترافق مع واقع أمني غير مستقر. تحليق الطائرات المسيّرة الإسرائيلية شبه اليومي، والخروقات الجوية المستمرة، يفرضان حالة توتر دائم. في القرى القريبة من "الخط الأزرق"، لا يمكن التعامل مع العواصف أو الليالي الطويلة باعتبارها ظروفًا طبيعية، لأن أي حركة أو نشاط يبقى خاضعًا لاحتمالات التصعيد.
هذا الواقع ينعكس مباشرة على تفاصيل الحياة اليومية. المدارس تعمل بشكل متقطع، وبعضها أقفل أبوابه. الزراعة تُمارَس بحذر شديد، خاصة في الأراضي القريبة من الحدود. حتى الأعمال البسيطة، كإصلاح منزل أو جمع الحطب، باتت مرتبطة بالمخاطر الأمنية، في ظل الخوف من الاستهداف أو القصف المفاجئ.
 
في بلدة ميس الجبل، يشرح الحاج زهرالدين، المعروف بـ"أبو ريان"، أن الشتاء هذا العام يأتي في ظل غياب شبه كامل لأي دعم رسمي. ويؤكد أن الاعتماد على "صوبيات الحطب" كان قائمًا منذ سنوات، غير أن الحرب فرضت واقعًا مختلفًا. فالحطب المتاح اليوم ناتج في جزء كبير منه عن الدمار، سواء من الأشجار التي سقطت بفعل القصف أو من بقايا الأثاث في المنازل المدمرة.
 
ويشير إلى أن هذا الخيار ليس كافيًا ولا آمنًا. فجمع الحطب أصبح محفوفًا بالمخاطر بسبب تحليق الطائرات المسيّرة والخوف من الاستهداف. كما أن كثيرًا من العائلات تقيم في منازل متضررة، وتكتفي بتأمين الحد الأدنى من التدفئة، في ظل ضيق مالي شديد وارتفاع أسعار المواد الأساسية.
 
في عيتا الشعب، تبدو عودة السكان إلى البلدة جزئية. محمد طحيني، طبيب أسنان من البلدة، يشير إلى أن عدد العائلات التي عادت لا يتجاوز الثلاثين عائلة، فيما بقيت غالبية السكان خارجها بسبب حجم الدمار. المنازل التي أعيد إشغالها خضعت لمعالجات مؤقتة، مثل طلاء الأسطح بمواد عازلة أو تغطيتها بأغطية بلاستيكية، في محاولة للحد من تسرب المياه.
ويؤكد طحيني أن كلفة التدفئة تفوق قدرة الأهالي، ما يدفعهم إلى جمع الحطب من الأراضي المحيطة رغم المخاطر الأمنية. ويضيف أن أي تحرك في الحقول يبقى مراقبًا من الجو، ما يجعل أبسط متطلبات التدفئة مرتبطة بالخطر.
 
لطالما شكّلت الزراعة مصدر دخل أساسي وشبكة أمان اجتماعية في الجنوب. إلا أن هذا الدور تراجع بشكل كبير. الأراضي القريبة من الحدود تُترك خوفًا، والمواسم الزراعية تتعرض للخسارة، فيما تقل القدرة على تسويق الإنتاج. في المقابل، ترتفع كلفة المعيشة، ما يجعل البقاء في القرى خيارًا اقتصاديًا صعبًا، رغم ارتباط السكان بأرضهم.
 
هذا التراجع لا يرتبط فقط بالوضع الأمني، بل أيضًا بغياب الدعم الزراعي المنظم، وغياب أي خطط تعويضية تحمي المزارعين من الخسائر المتكررة.
في ظل هذا الواقع، يبرز غياب الدولة كعنصر ثابت. لا توجد خطة طوارئ "شتوية" مخصصة للقرى الحدودية، ولا آليات سريعة لتعويض المتضررين. البلديات تحاول ضمن إمكاناتها المحدودة، لكنها تعاني من نقص الموارد. أما التعويضات، اذا وُجدت، فهي بطيئة وغير كافية.
في المقابل، برزت مبادرات فردية وأهلية لسد جزء من الفراغ. من بينها حملة "دولار واحد" التي يقودها عضو بلدية راميا الناشط حسين صالح، والتي ساهمت في دعم أكثر من 500 عائلة عبر ترميم منازل، تركيب نوافذ، ألواح طاقة شمسية، وتوزيع مدافئ. ورغم أهمية هذه المبادرات، فإنها تبقى حلولًا مؤقتة لا يمكن أن تحل مكان السياسات العامة.
 
بالنسبة لكثير من سكان الجنوب، البقاء في القرى الحدودية هو خيار مرتبط بالهوية والأرض، لكنه خيار مكلف على المستويين النفسي والاجتماعي. القلق الدائم، الضغوط الإقتصادية، وتأثير الأوضاع على الأطفال وكبار السن، كلها عناصر تراكميّة ترهق العائلات عامًا بعد عام.
 
مطالب السكان لا تتجاوز الأساسيات: دعم مباشر للتدفئة، ترميم فعلي للمنازل المتضررة، تعويضات عادلة وسريعة، وخطة شتوية تأخذ في الاعتبار خصوصية القرى الحدودية. المطلوب اعتراف عملي بحجم الأعباء، وليس الاكتفاء بوعود موسمية.
 
في جنوب لبنان، الشتاء ليس أزمة طارئة، إنما جزء من واقع مستمر. ومع استمرار الاعتداءات وتراجع القدرة الاقتصادية، يبقى الأهالي في مواجهة مفتوحة مع البرد وتبعاته. استمرار هذا الوضع من دون تدخل جدي يجعل الصمود عبئًا دائمًا على السكان، ويضع علامات استفهام كبيرة حول دور الدولة في حماية أطرافها وتأمين الحد الأدنى من شروط العيش الكريم.
Advertisement
مواضيع ذات صلة
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك

مهدي ياغي - Mahdi Yaghi