كتب طوني عيسى في" الجمهورية": قبل عامين، كان قرار الحرب في يد خامنئي في طهران، والأمين العام ل "الحزب" السيد حسن نصرالله في
لبنان، ولم يكن للرئيس نبيه بري وحركة "أمل" أي دور في الحرب. ولكن، بعد غياب نصرالله ونتيجة الضربات المريعة التي أصابت الواقع الشيعي في الحرب، كان بديهياً بروز دور بري كرجل إطفاء أو إنقاذ.
رجحت كفة بري بقوة داخل الثنائي، لسببين أساسيين: الأول هو أفول "المرحلة العسكرية"، ربما نهائياً، لمصلحة التفاوض السياسي. والثاني هو أنّ قاسم لم يملأ الفراغ الذي تركه نصرالله، أي لم يحقق التوازن الذي يجعله ندّاً في القيادة مع بري. لذلك، تنامى دور بري تدريجاً على مدى العامين الأخيرين، كمرجعية للشيعة في لبنان، وبلغ ذروته قبل أسابيع، عندما أرسل يده اليمنى النائب
علي حسن خليل إلى طهران، ليبلغ إلى مسؤوليها الكبار المخاطر المتنامية التي تحدق بالطائفة في لبنان. وقد سبقه المرجعية الشيعية في النجف آية الله علي السيستاني بتوجيهرسالة إلى خامنئي تحمل المضمون إياه: شيعة لبنان في خطر، فلا تحمّلوهم أكثر من قدرتهم على التحمّل.
يواجه بري وقاسم اليوم تحدّياً صعباً: كيف يمكن إبداء ليونة تنتزع الذرائع من يد
إسرائيل لشن حرب جديدة طاحنة، من دون أننصل بالتنازل إلى مرحلة تقارب الاستسلام؟
ما يقوم به الرئيس بري اليوم هو محاولة التوفيق بين الخطين، فهو في الواقع يحاول استخدام الديبلوماسية لوقف خسارة الطائفةللمكتسبات العسكرية، أي سلاح "
حزب الله"، والمكتسبات السياسية أي نفوذ الشيعة داخل الدولة. بل إنّه يحاول إعداد صفقة يرعاها الأميركيون والفرنسيون والعرب، تضمن للشيعة مكاسب في مستقبل لبنان، في السياسة والاقتصاد خصوصاً، أي في قانون الانتخاب وهيكلية المؤسسات والمرافق العامة والقطاعات الحيوية. وأما القوة العسكرية فيتمّ التخلّي عنها تماماً في جنوب الليطاني،ولكنها تبقى في وضعية "الاحتواء" في المناطق الأخرى، أي يبقى"وهج" السلاح حاضراً، لتكون له مفاعيله السياسية دائماً. وثمةمن قرأ في توفير النصاب للجلسة التشريعية الأخيرة ضوءاً أخضرعربياً ودولياً لمصلحة بري، بهدف تشجيعه على المضي في الصفقة.
الواضح أنّ بري، المحنك في السياسة، يدير الشأن الشيعي في الاتجاه الواقعي. ولئلا تفلت التسويات من يده، ويتولّى إبرامها آخرون، يسارع إلى مد الخطوط في كل الاتجاهات الداخلية والخارجية. ففي النهاية، إذا كان لا بدّ من صفقة لإنهاء الأزمة الحالية، فإنّ بري يعتبر أنّ من الأفضل له أن يرعى هذه الصفقة، ولو كانت مؤلمة، وأن يشرف على ولادتها من موقع قوة، وأن يحصل فيها "الثنائي" على أكبر مقدار من المكاسب، لأنّ تركها للآخرين قد يعني الخسارة الكاملة في العسكر كما في السياسة والاقتصاد والإدارة.
وتحت عنوان"هل يفعلها نبيه بري؟" كتب ابراهيم الامين في" الاخبار": صحيح أنّ الحكومة أقرّت تخصيص مبالغ لمجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة لاستخدامها في معالجة آثار الحرب، إلا أنّ النقاش الجانبي دار حول ما إذا كانت وزارة المالية قادرة على تأمين اعتمادات إضافية، في وقت تؤكد فيه امتلاكها نحو ثلاثة مليارات دولار، فضلاً عن وفورات أخرى متراكمة منذ سنوات سابقة. غير أنّ وزير المالية يكرر تبريراً واحداً في هذا السياق، مفاده أنّ صندوق النقد الدولي يشترط عدم تسجيل عجز في الموازنة.
دور ياسين جابر في ملف إعادة الإعمار لم يعد منطقياً، ولم يعد مقبولاً تركه يعمل وفقاً لأجندة الوصاية الخارجية على حساب من يريدهم أن يحملوه إلى رئاسة المجلس النيابي.
وقبل الدخول في النقاش حول العوامل الداخلية، كان مصدر بارز في صندوق النقد الدولي قد أوضح لـ«الأخبار»، أنّه لا يمكن لصندوق النقد ولا لأي مؤسسة مالية دولية أن تفرض شروطاً على البرامج المرتبطة بمعالجة آثار الحروب الوطنية أو الكوارث الطبيعية، بما فيها الحرب الأخيرة، مؤكداً أنّ الصندوق يعتبر دعم إعادة الإعمار في صلب عمل أي حكومة.
في السياق نفسه، كان مسؤول مالي رفيع في
بيروت قد أكّد - وأيّده مسؤول بارز في مصرف لبنان تحدث إلى «الأخبار» - أنّ الحديث عن تأثير سلبي حتمي على سعر الصرف في حال استخدمت الحكومة جزءاً من الوفورات المتوافرة كلام غير علمي، وأن مصرف لبنان قادر على استيعاب هذا الإجراء من دون اهتزازات كبرى..
أمام هذه المعطيات، يبرز السؤال: إذا كانت الحجج التقنية والمالية لا تصمد، فما الذي يمنع فعلياً إطلاق مسار جدي لإعادة الإعمار؟
يُبدي الوزير جابر انزعاجاً دائماً من أي انتقاد يطاول أداءه في ملفات شديدة الحساسية. وعندما قرّر السفر في اليوم الذي ناقشت فيه الحكومة ملف نزع السلاح، لم يكن ذلك هروباً من مواجهة مع رئيس الحكومة أو مع سائر الأعضاء في حال اختار تبنّي موقف الثنائي حركة «أمل» و«حزب الله»، بل كان، في جوهره، تفادياً للإقرار العلني بموافقته على خطة الحكومة، وبأن قرار نزع السلاح مقبول لديه. وفي هذه النقطة تحديداً، يدرك جابر أنّ الجميع يتعامل معه على أساس أنّه جزء من السلطة المفروضة على لبنان من قبل
الأميركيين والأوروبيين والسعوديين. كما يعلم أنّه يُنظر إليه على أنّه «حصان طروادة» يحظى بحماية غربية، ويجري الاستثمار فيه لإيصاله إلى المجلس النيابي، تمهيداً لتقديمه بديلاً لرئيس مجلس النواب نبيه بري.. من هنا، فإنّ بدء التداول بملف الانتخابات في الجنوب، وما نُقل عن الرئيس نبيه بري لجهة درسه احتمال استبدال النائب ناصر جابر، جعل الأنظار تتجه إلى احتمال تعرّض بري لضغوط كبيرة من
الولايات المتحدة والسعودية لضمّ الوزير جابر إلى لائحته الانتخابية، في طلب قد لا يكون قادراً على رفضه. وتقوم هذه الفرضية على أن المشروع الأميركي - السعودي الهادف إلى إطاحة بري، يتضمّن في أحد وجوهه السعي إلى فرض انتخاب نائب ضمن الكتلة الشيعية يكون، في الواقع، ممثلاً لطرف آخر. وهنا يصبح مفهوماً غياب الحماسة لدى الوزير جابر للقيام بأي جهدٍ استثنائي لتأمين أموال لإعادة الإعمار. فالرجل يدرك أنّ هذا الملف يواجه رفضاً أميركياً وإسرائيلياً وسعودياً، وأنّه مرتبط أصلاً بسلسلة من التنازلات السياسية الكبرى، ما يجعله غير معنيّ بالمبادرة أو الدفع في هذا الاتجاه، رغم أن خبرته الطويلة في لجنة المال والموازنة تتيح له معرفة دقيقة بحجم الهوامش المتاحة داخل الموازنة، وبإمكانية تأمين أكثر من ربع مليار دولار عبر خفض نفقات غير ذات أولوية، لتلبية حاجة استثنائية فرضتها الحرب. وبعد مراجعة مواقف عدد كبير من الشخصيات السياسية والنيابية، بما فيها قيادات ونواب من حركة أمل وحزب الله، فإنّ سؤالاً وحيداً يجري على ألسنة هؤلاء: ألا يستطيع الرئيس نبيه بري أن يطلب من الوزير جابر القيام بهذه المهمة فوراً؟.