في خضم الأزمة الاقتصادية والسياسية العميقة التي يعيشها لبنان، تزداد التساؤلات حول طبيعة السيطرة الفعلية للدولة على كامل أراضيها، ولا سيما في المناطق الحدودية الشرقية مع سوريا، التي تشهد منذ سنوات تصاعدًا واضحًا في عمليات التهريب المنظم، خصوصًا لمواد كالكبتاغون والحشيش، وأحيانًا الأسلحة. ففي حين ينفذ الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية عمليات متكررة لضبط معامل تصنيع المخدرات ومسارات التهريب، فإنّ حجم هذه الظاهرة واتساع بنيتها التنظيمية يطرحان علامات استفهام جدية حول وجود "نظام موازٍ" يعمل خارج سلطة الدولة، ويتقاطع أحيانًا مع غياب الرقابة، أو حتى تساهل بعض الجهات المحليّة.
منذ بداية العام 2025، كثّف الجيش والأمن العام عمليات الدهم في
البقاع الشمالي، وكان أبرزها العملية التي جرت في 8 كانون الثاني داخل بلدة اليمونة، حيث تم ضبط معمل تصنيع كبتاغون يحتوي على نحو 50 مليون حبّة، إضافة إلى تجهيزات متطورة تدل على وجود استثمار مالي ضخم في هذه الصناعة غير الشرعية. لكن على الرغم من ذلك، تواصل تقارير أمنية التأكيد أن هذه الشحنات لا تمثل سوى نسبة محدودة من الحجم الفعلي للتهريب الذي يتم عبر سلسلة من المعابر غير الشرعية، الممتدة من القاع إلى مشاريع
القصر وجرود الهرمل.
مصادر ميدانية في
الأجهزة الأمنية تؤكّد لـ"
لبنان24" أن عدد المعابر غير الشرعية النشطة لا يزال كبيرا، وفي حين يتم إعلاق معبر، يتم فتح آخر خلال 72 ساعة كحدّ أقصى، يُستخدم بعضها حصريًا لنقل المخدرات، ويُدار من قبل مجموعات منظّمة تمتلك آليات نقل، وأجهزة تشويش، وأحيانًا تغطية من عناصر عشائرية أو نافذين محليين.
لا تقف خطورة هذه الشبكات عند حدود التهريب فقط، بل تتعداها إلى دورها المتنامي في إدارة الشؤون المحليّة في بعض القرى، حيث باتت تُستخدم العائدات الناتجة عن الاتجار غير المشروع لتقديم خدمات بديلة عن تلك التي يفترض بالدولة أن تؤمنها: مياه، كهرباء مولدات، وظائف محلية، ودعم لبعض العائلات.
ويؤكد المصدر الأمني لـ"لبنان24" أن ما يجري اليوم في تلك المنطقة يقترب في تركيبه الوظيفي من نموذج "الاقتصاد الموازي"، حيث تُدار قطاعات واسعة من الحياة اليومية خارج الدولة، وبتمويل ناتج عن أنشطة غير قانونية، ما يجعل من الصعب فرض القانون لاحقًا من دون كلفة اجتماعية عالية.
أضاف:" هذه الظاهرة تنمو في فراغ متعدد الأوجه: غياب الخطط التنموية، ضعف المؤسسات الرسمية، وتراجع ثقة المواطنين بالدولة كراعٍ وحيد للأمن والعدال".
على الرغم من الإمكانيات المحدودة، تُسجّل القوى الأمنية اللبنانية نجاحات متفرقة في ضبط الشحنات والمعامل، لكن طبيعة الأرض، وقوة الشبكات، ونقص التنسيق الداخلي، عوامل جميعها تعيق تحقيق اختراق حاسم. وتؤكد المعلومات أنّ التعاون الأمني مع الجانب السوري يقتصر على تنسيق محدود، غير منظم، وغالبًا ما يرتبط باعتبارات سياسية أو ظرفية.
إن الحديث عن "دولة داخل الدولة" لا يجب أن يُفهم فقط كاتهام سياسي، بل كمؤشّر على فشل متراكم في إدارة مناطق الأطراف. إذ لا يمكن
القضاء على التهريب ما لم تُقدَّم بدائل اقتصادية حقيقية، وخطط زراعية بديلة، واستثمارات في البنى التحتية، تعيد دمج المناطق الحدودية في مشروع الدولة. الاعتماد على الحلول الأمنية وحدها قد يؤدي إلى نتائج ظرفية، لكنه لن يغيّر المعادلة على المدى
الطويل. كما أن تأخير بناء استراتيجية متكاملة لمراقبة الحدود سيُبقي لبنان مكشوفًا أمنيًا وسياسيًا، ويدفع مزيدًا من المجتمعات المحلية إلى الارتهان لمصادر نفوذ غير رسمية.
ما يجري على الحدود الشرقية ليس مجرّد تهريب متفرق أو ضعف عابر في الرقابة، بل هو مشهد متكامل لشبكات تنشط في ظل فراغ مؤسساتي واضح، وتُعيد إنتاج سلطة موازية مدعومة بالمال، والموارد، والعلاقات. لا يمكن عزل هذا الواقع عن أداء الدولة نفسه. إذ أنّ غياب الاستثمار التنموي، وتراجع حضور الدولة الخدماتي، وتدني رواتب القوى الأمنية، جعل من الصعب ترسيخ سيادة القانون. القوى الأمنية في تلك المناطق تعمل بقدرات محدودة، وتواجه ضغوطًا اجتماعية، ومخاطر أمنية، من دون غطاء سياسي موحَّد أو دعم لوجستي مستدام. كما أن سكان هذه المناطق يشعرون بأن الدولة لا تمثلهم، بل تحضر فقط عند الأزمات أو حملات المداهمة، مما يغذّي مناخ العداء المتبادل، ويدفع المجتمعات المحلية إلى البحث عن بدائل أمنية واقتصادية ضمن محيطها الضيق.
وفي سياق متصل كان لافتا البيان الذي اصدرته
قيادة الجيش واكدت فيه" الاستمرار في التواصل مع السلطات
السورية، واتخاذ التدابير الاعتيادية اللازمة لضبط الحدود ومنع أي مساس بالأمن".