مشروع قانون إصلاح المصارف الذي أقرّ اليوم في المجلس النيابي في الجلسة المسائيّة، بـ 57 صوتًا مقابل تصويت سبعة نواب ضده وامتناع 14 نائبًا، يعود إلى الحكومة السابقة، حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي وضعته وناقشته على مدى جلسات عدّة، وكان مشروع قانون أشمل غير منقوص على عكس المشروع الحالي، بحيث ضمنته الحكومة السابقة إعادة الهيكلة وتحديد مصير الودائع أو التوازن المالي، وشكّل أول إطار قانوني لمصرف لبنان والحكومة للتعامل مع الأزمات المالية الراهنة والمستقبلية.
في شباط الماضي، تشكّلت حكومة الرئيس نواف سلام، وأعادت درس المشروع وإقراره في نيسان الماضي، ولكنّها ألغت أهم ركن فيه، وهي اللجنة التقنية المختصّة بإعادة هيكلة المصارف الواردة في مشروع حكومة ميقاتي، ذات الصلاحيات الكبيرة والحصانة الأكبر، واستبدلتها بهيئة أخرى راعت في تركيبتها وإنتقاء أعضائها التطييف والتسييس. وسنفنّد ذلك في المقال.
ماذا حصل في الحكومة السابقة؟
لم يكن مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف مستقلًا عن التوازن المالي، بل عملت الحكومة السابقة على إعادة هيكلة المصارف من ضمن رؤية قانونيّة متكاملة لاصلاح القطاع المالي. كانت البداية بوضع "مسودة استراتيجيّة النهوض بالقطاع المالي"، التي أخذ
مجلس الوزراء علمًا بها في 20 أيار عام 2022، وذلك بعد الاتفاق الذي حصل بين الحكومة وصندوق النقد على مستوى الموظفين، وفق ما أوضح لـ "
لبنان 24" الوزير السابق نقولا نحاس. لاحقًا وضع صندوق النقد ملاحظاته على مسودة مشروع الحكومة المتضمن قوانين التوازن المالي وهيكلة المصارف. ووفق التسلسل الزمني، أرسلت الأمانة العامة لمجلس الوزراء كتابًا إلى الأمانة العامة لمجلس النواب في 4 تشرين الثاني 2022 لاطلاع رئيس المجلس على مسودة المشروع. بعد حوالي شهر قدم اقتراح قانون نيابي يتناول التوازن المالي وإعادة هيكلة المصارف إلى مجلس النواب، ثم سحب الاقتراح وقُدم اقتراح آخر. وفي 28 شباط 2024 طلب الرئيس بري من الرئيس ميقاتي خلال جلسة لمجلس النواب دمج الاقتراحات، فسُحب المشروع من التداول، وأُعيد إلى الحكومة لإعادة دمج القانونين. عندها طلب الرئيس ميقاتي في المرحلة الأولى من مصرف لبنان أن يعدّ اقتراح الدمج، وأنجز الأخير المهمة في 6 نيسان 2024، دون أن يتبنّى المشروع الذي رُفض في مجلس الوزراء، وتمّ تشكيل لجنة وزارية لاعادة تنقيح الاقتراح أو إعادة صياغته أو إعداد مشروع جديد. أعدّت اللجنة مشروعًا جديدًا لإعادة الهيكلة والتوزان المالي، عُرض على مجلس الوزراء في آخر جلسة له، وتقرر أن تقوم لجنة وزارية مصغرة بإعادة قراءة ثانية للمشروع قبل إرساله إلى المجلس النيابي. في ذلك الوقت تألفت حكومة الرئيس سلام.
في الحكومة السابقة هيئة مختصّة بالهيكلة.. وفي الصيغة الحالية هيئة بتركيبة طائفية وسياسية
رغم أنّ المشروع هو صيغة معدّلة عن نسخة الحكومة السابقة ، إلّا أنّ المفارقة وفق مصادر وزارية مواكبة أنّ الصيغة الحالية شابتها ملاحظات جوهرية، أبرزها تعديل المادة الخامسة المتعلّقة بكيفية تأليف الهيئة المصرفيّة العليا، إذ أنّ مشروع الحكومة الماضية كان يتضمن تأسيس لجنة خاصة مسؤولة عن إعادة الهيكلة، مؤلّفة من حاكم المصرف المركزي ونوابه الأربعة، وثلاثة من الخبراء يختارهم مجلس الوزراء بناء على تقديم اقتراح من "المركزي" بخمسة أسماء.
الباحث الاقتصادي والخبير المالي الدكتور نسيب غبريل لفت في اتصال مع "لبنان 24" إلى أنّ الهيئة الموكلة مهمة هيكلة المصارف وفق مشروع حكومة ميقاتي في 8 شباط 2024، كانت هيئة مستقلة أنشئت لغاية الهيكلة، تتمتع بصلاحيات استثنائية، وبحصانة تفوق حصانة النواب، كما أنّ قراراتها غير خاضعة للمراجعة أو الاستئناف. بينما في المشروع الذي أقرته الحكومة الحالية عمدت إلى إلغاء اللجنة الخاصة، وأوكلت المهمة إلى الهيئة المصرفية العليا، وخلقوا غرفتين، واحدة للأمور العقابيّة، وأخرى لإعادة الهيكلة. واللافت وفق مصادر وزارية أنّه جرى تعديل اعضاء الهيئة، ووضعت تركيبة جديدة بنكهة طائفية وسياسية، حيث أن رئيس الهيئة هو حاكم المصرف وتضم نائبه الأول فقط، وتمّ إدخال رئيس لجنة الرقابة على المصارف، بحيث يبدو جليًا من تركيبة الهيئة مراعاة التوازن الطائفي على حساب معايير ومتطلبات إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بحيث لم تعد لجنة تقنية مختصّة.
ليس ذلك فحسب، بل نصّت الصيغة الحالية على وجود قاض في الهيئة، وسألت المصادر الوزارية ما علاقة القاضي بإعادة هيكلة المصارف؟ كما اشتملت الهيئة على ممثل عن مؤسّسة ضمان الودائع، علمًا أنّ المصارف تساهم في المؤسسة بنسبة نصف أسهمها، وبذلك ستتمثل المصارف بشكل أو بآخر في الهيئة المعنية بإعادة هيكلة القطاع.
منح المصرف حق الاعتراض!
الملاحظة الثانية في الصيغة الحالية هي منح المصرف الخاضع للهيكلة (فيما لو قررت الغرفة الثانية تصفيته أو دمجه أو أي قرار آخر) إمكانية الإستئناف والاعتراض، وذلك لا يجوز، وفق الوزير نحاس "خصوصًا أنّ عامل الوقت يشكّل اليوم عنصرًا أساسيًّا، وفي حال فتحنا الباب أمام الاعتراض والذهاب من محكمة إلى أخرى، فذلك يعني عمليّا أنّ هيكلة المصارف لن تتم قبل سنوات طويلة. وفي رأي إدخال الاعتراض كان خاطئًا".
غبريل: العريس يتجهز ولا عروس
يلفت غبريل إلى التركيز على القطاع المصرفي لجهة تعديل قانون السرية المصرفية للمرة الثانية، وتعيين نواب الحاكم ولجنة الرقابة على المصارف بتوازناتها السياسية، مشبّهًا ما يحصل وكأن أحدهم أنجز طلاء منزله، وجدّد الأثاث وابتاع ثيابًا جديدة استعدادًا للزواج، لكنّه لم يجد العروس بعد "بمعنى أنّ الحكومة بدأت بالأسهل سياسيًّا وشعبويًّا من خلال تعديل قانون السرية وقانون انتظام العمل المصرفي، لكن الأصعب هو تحديد مصير الودائع بتسميتها المضللة "الفجوة المالية"، وهنا بيت القصيد، خصوصًا أنّ مسار هذا القانون في الشق السياسي والشعبوي، سيكون أصعب خصوصًا أنه يسبق الانتخابات النيابية، وقد أوضح حاكم المركزي أنّ قانون التوازن المالي سيكون حاضرًا في كانون الأول في أحسن الأحوال، أي قبل موعد الانتخابات بأربعة أشهر، فلكم أن تتخيلوا ما إذا كان مجلس النواب سيارع إلى إقراره في ذاك الوقت عشية الانتخابات".
أضاف غبريل "سنسمع إنجازات بإقرار قانون إصلاح أوضاع المصارف، لكن هذه الخطوة لا يجب أن تحجب النقطة الأساسيّة المتمثلة باقتصاد الظل وقطاعه المالي غير الشرعي، الذي قدرته شركة التدقيق والاستشارات العالمية Ernst & Young)) بـ 20% من الناتج المحلي، ما يوازي 4 مليار و800 مليون دولار. هذا القطاع الذي تسبب بوضع لبنان على اللائحة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي، وعلى لائحة البلدان العالية المخاطر من قبل الاتحاد الاوروبي. فمن دون مكافحة اقتصاد الظل وكبحه، لن تستعاد الثقة ولن تُجلب الاستثمارات والمساعدات. فالاصلاح لا يتجزأ، إذ لا ثقة من دون بسط سلطة الدولة وتطبيق أحادية السلاح بيدها، وفصل السلطات، والالتزام بالمهل الدستورية، وإعادة ترميم العلاقات مع الخليج العربي، ومن دون محاربة التهرب الضريبي والجمركي وتبيض الاموال وتمويل الارهاب".
غبريل رفض التذرع بعمر الحكومة قائلًا " كان لدى الحكومة منذ بدء عملها 15 شهرًا لحين موعد الانتخابات، وهي فترة كافية لوضع الاصلاحات على السكة ولا يجوز التذرع بالوقت من قبل بعض الوزراء. بينما حكومة ميقاتي عملت بصلاحيات كاملة لمدة سبعة أشهر فقط، قبل أن تصبح حكومة تصريف أعمال".
امكانية الطعن
فضلًا عن الملاحظتين السابقتين، هناك ثغرة دستورية تعتري قانون إصلاح المصارف، وهو ربط تنفيذه بقانون آخر مكمّل له ولم يقر بعد في الحكومة، إذ تنص المادة 37 من مشروع قانون الإصلاح على أن تطبيق أحكامه مرتبط بإصدار قانون معالجة الفجوة المالية، والربط بين القانونين قد يجعل القانون عرضة للطعن أمام المجلس الدستوري، او مؤجل التنفيذ.