ينمو ملفّ بطاريات الرصاص في
لبنان كمرآة دقيقة لخللٍ بنيويّ: دولة تدفع المجتمع دفعًا إلى بدائل الطاقة بفعل عجز الشبكة، من دون أن تبني بالتوازي سياسةً لإدارة دورة حياة تلك البدائل. هكذا يتكاثر "المخزون المؤجَّل للخطر" داخل بطاريات الطاقة الشمسية في البيوت والمحالّ والمزارع، ثم يَصرف المجتمع كلفته الصحيّة والبيئية على أقساطٍ طويلة غير مرئية.
جوهر المشكلة ليس "البطارية" بحدّ ذاتها، بل منطق الاستبدال من دون منظومة. حين تُستورد بطاريات الرصاص بكثافة لتغذية سوق الطاقة اللامركزية، ولا تُلزَم سلسلة التوريد باسترجاعٍ منظم أو معالجةٍ آمنة، تتكوّن حتمًا حوافزٌ اقتصادية لتدويرٍ عشوائي: قيمة رصاص مرتفعة، كلفة حماية مهنيّة غائبة، ومردود سريع لمن يعمل خارج القانون. أي أن الربح يُخصخص فورًا، فيما تُعمَّم الخسارة على الهواء والماء وصحّة المواطن. فمنظمة الصحّة العالمية شدّدت على أنّ "لا مستوى آمناً للتعرّض للرصاص"، محذّرة من تأثيره الدائم على نموّ دماغ الأطفال، وارتباطه بارتفاع ضغط
الدم وانخفاض معامل الذكاء واضطرابات السلوك.
وبحسب الأرقام، تراكم في لبنان، نحو 33.4 ألف طن من نفايات بطّاريات الرصاص، ويتوقّع أن تقفز الكمية إلى 145.8 ألف طن بحلول 2040 إذا استمرّت المنظومة العشوائية للجمع والصهر. ليست الأرقام وحدها ما يثير القلق؛ فقد ارتفع استيراد بطّاريات الرصاص المخصّصة للأنظمة الشمسية أكثر من عشرة أضعاف بين 2013 و2022، ما جعلها الصنف المسيطر في سوق الطاقة المنزلية، ويعني عملياً أنّ جبل النفايات الرصاصية ينتظر اللحظة التي تتوقف فيها هذه البطّاريات عن العمل، وهي لحظة تقترب سريعاً بفعل الأعطال المتكررة ورداءة التصنيع.
دراسة أخرى، حذّرت من مستويات تلوث كارثية، إذ بناء على إحدى العينات رصدت تواجد 39 غرام رصاص في كل كيلوغرام من تربة الموقع (الحدّ الذي تسمح به
منظمة الصحة العالمية هو 0.4 غ/كغ)، و717 ميكروغراماً من الرصاص في كل لتر من مياه الصرف، أي أعلى بثلاثة آلاف وخمسمئة مرّة من المعيار العالمي المسموح. والأخطر أنّ التلوّث لا يبقى خلف أسوار الورشة؛ فالغبار المعدني الخفيف يستقرّ على الأسطح المجاورة، ويجد طريقه إلى الرئتين والمجارير والحقول الصغيرة.
اقتصاد الخردة: يوميّة تساوي الكثير
يبيع تجار الخردة كيلوغرام الرصاص المسترجَع بنحو دولارين، وهو ما يوازي أجر يوم كامل لعامل غير نظامي. هذه المعادلة الماليّة البسيطة تُغري كثيرين إلى دخول اللعبة: لا ترخيص، لا تدقيق، ولا تعقيدات جمركيّة حقيقية، في ظلّ غياب واضح لتطبيق اتفاقية بازل التي تنظّم نقل النفايات الخطرة وطرق معالجتها. النتيجة: شبكة تهريب داخلي وخارجي تبدأ من شاحنات صغيرة تدخل الأزقّة ليلاً، وتنتهي بمصدّرين يجمعون الرصاص في حاويات شحن تُرسل إلى أفران أكبر في دول مجاورة، أو تعيد بيعه إلى مصانع مقاولات محلية تدسّه في مواد البناء.
على المستوى المؤسسي، يُعرِّي الملف ضعفًا مزمنًا في حوكمة الأخطار.. تقاطُع صلاحيات بين وزارات، وبلديات بلا أدوات قياس أو إنفاذ، ومعابر جمركية تُعامل البطارية كسلعة لا كمصدر نفاية خطرة مستقبلية. غياب السجلّ الوطني لحركة البطاريات، من الاستيراد إلى الاستهلاك إلى نهاية العمر، يجعل التقصّي مستحيلًا، ويحوّل أي إحصاء إلى تقديرٍ أفضلُ ما فيه أنه ناقص.
صحيًا، التعرّض للرصاص ليس حدثًا عارضًا يُعالَج بمضادٍّ سريع، بل منحنى ضررٍ تراكمي يخترق أجيالًا.. اقتصاديًا، يشتغل الملف وفق قواعد اقتصاد ظلّ مكتمل الأركان: شبكة وسطاء، تسعير يومي للخردة، وقنوات تصريف محليّة وعابرة للحدود. أي مقاربة جزئية، او حملة تفتيش هنا، وإقفال ورشة هناك، لا تغيّر سوى جغرافيا النشاط. والأسوأ، أنّه ثمة مخاطرة إضافية في أفق الانتقال إلى تقنيات أحدث (كالليثيوم-أيون): استبدال خطرٍ بخطر، حيث سنعيد إنتاج القصة بعنوان جديد.
استراتيجية الدولة -إن أرادت أن تكون دولة- لا تبدأ إلا من خلال تنظيم السلسلة كاملة، وحسب الخبراء لا بدّ من تسجيل إلزامي للمستوردين والموزعين والمركِّبين، وديعة/رسم بيئي يُستعاد عند التسليم، بنية تكرير مرخّصة وقابلة للتدقيق، وبرنامج رصد صحي
دوري في نطاقات الخطر. ما سواها يُبقي البلد في دائرة الإطفاء اللحظي لحريقٍ يتغذّى من نفسه.
طريق العودة من الهاوية
الخلاصة أن بطاريات الرصاص في لبنان ليست خبرا عاديا يجب أن يمر مرور الكرام.. إنها اختبار لمدى قدرة النظام العام على التحوّل من إدارة العجز إلى إدارة المخاطر. إمّا تُصاغ قواعد اللعب الآن، قبل أن تبلغ موجات انتهاء العمر ذروتها، وإمّا نُبقي
المستقبل رهينة حفنة من عمليات التدوير، يضع المواطن في مواجهة مصيره صحيا. فالحلّ لا يمكن أن يكتفي بمنع الحرق العشوائي. المطلوب، وفق خبراء بيئيّين، ثلاث خطوات عاجلة:
1- إقرار قانون "المسؤولية الموسّعة للمنتج"، بحيث تُفرض ضريبة بيئية على كل مستورد بطّاريات تُموَّل منها عملية الاسترجاع.
2- إنشاء مركز تكرير وطني واحد على الأقل تُشرف عليه هيئة رقابية مستقلة.
3- إطلاق فحوص دم مجّانية في المناطق المحيطة بالورش لرصد التلوّث مبكراً وتعويض المتضرّرين صحيًّا.
إلى أن تتحرّك الدولة، ستبقى بطّاريات الرصاص المستعملة "ذهباً ساماً" في أيدي مئات الورش العشوائية، يبيعون الرطل بالدولار ويشترون به غذاءً ملوثاً وبيئةً مريضة ومستقبلاً أثقل بالرَّصاص من كلّ ما حمله الفقر يوماً. في الأحياء المكتظّة التي يزنِّرها الدخان، لا أحد يحتاج إلى جهاز قياس ليفهم أنّ الهواء صار معدنياً، وأنّ التراب بات سُمًّا تحت أقدام أطفال يركضون فوق قشرة الأرض… ولا يعلمون أنّها تحمل موتهم البطيء.