في خضمّ النقاش المتجدّد حول ملف سلاح "
حزب الله"، عاد الحديث بقوّة خلال الأيام الأخيرة عن تمايز في المقاربة بين
رئيس مجلس النواب نبيه بري والحزب، خصوصًا بعد ما قيل عن دور الرجل، جنبًا إلى جنب رئيسي الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام، في صياغة التعديلات
اللبنانية على الورقة الأميركية حول الوضع في الجنوب، وهي تعديلات قيل إنّ "حزب الله" رفضها بالمطلق، ما أوحى بتضارب في الأولويات أو حتى في المبادئ.
وقد زاد منسوب هذا الانطباع تصريح لافت لوزير المال ياسين جابر، المحسوب على
بري، حين أكد أنّ "أولويتنا هي بناء الدولة وتقوية مؤسساتها كافة، وتفعيل دورها وتعزيزه، وفي مقدمها الجيش والقوى العسكرية كافة، وحصرية السلاح بيدها"، مشددًا على أن هذا المبدأ وارد في البيان الوزاري ومتّفق عليه، وهو ما فسّره كثيرون ضمنًا على أنّه موافقة ضمنية على قرارات جلستي الخامس والسابع من آب الشهيرتين.
هذا التباين الظاهري أعاد إشعال الأسئلة القديمة عن مدى وحدة الموقف بين "الثنائي الشيعي"، وإن كان هذه المرّة قائمًا على معطيات أكثر جدية من ذي قبل، في ظلّ تحوّلات إقليمية وضغوط دولية ومقاربة جديدة للملف اللبناني، فهل نحن فعلًا أمام بداية افتراق حقيقي في النظرة إلى ملف سلاح "حزب الله" بين الحليفين التقليديين، أم أنّ الحديث لا يعدو كونه تأويلًا مبالغًا فيه لخطابات ووقائع قابلة للتفسير ضمن إطار الوحدة السياسية المتواصلة بين الطرفين؟
مقاربة مختلفة أم بداية افتراق؟
ثمّة من يعتقد أنّ رئيس مجلس النواب
نبيه بري بدأ يبتعد تدريجيًا عن مقاربة "حزب الله" لملف السلاح، مدفوعًا بوعي متنامٍ لحجم التحوّلات المحلية والدولية. في نظر هؤلاء، فان مجرّد مشاركة بري في صياغة التعديلات اللبنانية على الورقة الأميركية، هي تعبير عن رغبة ضمنية بالانخراط في مسار سياسي تفاوضي، يعترف بواقع الضغوط ويقترح حلولاً بديلة أو واقعية، ولو بخطاب معتدل، يختلف عن خطاب الحزب المتشدّد.
ويقول أصحاب هذا الرأي إنّ تصريح الوزير ياسين جابر لم يأتِ في سياق داخلي معزول، بل جاء ضمن لحظة سياسية دولية تتحدث علنًا عن ضرورة معالجة ملف السلاح غير الشرعي. ومن هذا المنطلق، يُقرأ كلامه كإشارة واضحة إلى قبول ضمني بمبدأ حصرية السلاح، حتى لو كان تنفيذ هذا المبدأ مرتبطًا بمراحل تدريجية أو تفاوضية. وهذا التمايز لا يُفهم بالضرورة كقطيعة، لكنه يشير إلى اختلاف في مقاربة الأولويات بين حركة "أمل" و"حزب الله".
أكثر من ذلك، يرى خصوم الحزب وبعض المراقبين أنّ بري يدرك جيدًا أنّ المرحلة المقبلة لا يمكن أن تُدار بالمنطق ذاته الذي حكم علاقة "الثنائي" مع الدولة طيلة السنوات الماضية، وأنّ الانهيار الحاصل وتبدّل المزاج الدولي والعربي يفرضان أولويات مختلفة. ولذلك، فإنّ تموضع بري أقرب إلى الواقعية السياسية، ولو أنّه لا يهاجم الحزب أو يعارضه، إلا أنه لا يتبنّى في الوقت نفسه الخطاب الأيديولوجي الذي وصل لحدّ القول إنّ "الموت أهون من تسليم السلاح".
وحدة المسار والمصير... واقع أم شعار؟
في المقابل، تنفي أوساط "الثنائي الشيعي" وجود أي تمايز جوهري في الرؤية، وتؤكّد أنّ كل ما يُثار عن خلافات أو اختلافات لا يتعدّى كونه قراءة مغرضة أو متسرعة للتمايز في الأدوار وليس في المواقف. فبري، وفق هذه السردية، لم يخرج عن موقف الحزب، بل حاول تقديم صياغة تحفظ ماء وجه الدولة، دون أن تمس بجوهر الثوابت، وهو أمر متّفق عليه بين الطرفين منذ سنوات.
يُشدّد القريبون من "الثنائي" على أنّ العلاقة بين "أمل" و"حزب الله" تقوم على توزيع أدوار مدروس. فبينما يتولى "حزب الله" التعبير عن الثوابت الاستراتيجية بلغة المقاومة، يتولّى بري إدارة المسارات السياسية والبرلمانية والدبلوماسية بلغة مرنة، تحفظ التواصل مع الداخل والخارج. ومن هذا المنظور، فإنّ خطاب جابر لا يُمثّل خروجًا عن الثوابت، بل هو تعبير عن نفس الخطاب السياسي الذي يعتمده بري منذ الطائف، والذي لم يتناقض يومًا مع خط المقاومة.
حتى داخل "الثنائي"، يُقرّ البعض بوجود اختلاف في التوقيت والوسائل وليس في الأهداف. فبري، باعتباره رجل دولة وبرلمان، يرى أنّ هناك لحظات تستدعي البراغماتية والاحتواء، فيما الحزب يعتبر أنّ أي تنازل شكلي في لحظة ضغوط سيُقرأ ضعفًا وسيُوظّف دوليًا. ورغم هذا الفارق، فإنّ الطرفين يلتقيان على رفض تسليم السلاح كشرط مسبق أو كمدخل لأي تسوية، معتبرين أنّ مناقشة السلاح لا يمكن أن تتمّ إلا ضمن سياق وطني جامع، وبعد إزالة التهديدات
الإسرائيلية واستعادة السيادة الكاملة.
في المحصّلة، قد يكون صحيحًا القول إنّ هناك تمايزًا نسبيًا في الأسلوب واللغة بين بري و"حزب الله"، وربما أيضًا في تموضع كلّ منهما ضمن المشهد الإقليمي والدولي. لكنّ الوقائع حتى اللحظة لا تشير إلى افتراق حقيقي أو تغيّر جذري في تحالف "الثنائي الشيعي"، بل إلى مرونة في الأداء ضمن ثوابت متفق عليها. أما الحديث عن تفكك، فلا يزال في إطار الأمنيات بالنسبة لخصوم الطرفين، أكثر مما يعكس تحوّلًا فعليًا في بنية العلاقة السياسية والأيديولوجية بينهما.