منذ أن أُسندت إليه مهمة نقل الرسائل الأميركية إلى لبنان لم ينفك توم برّاك، اللبناني الأصل، يطلق تصريحات وآراء ونظريات لم تكن لتخطر على بال أحد. ومن بين هذه النظريات، التي تبدو لكثيرين غير منطقية، دعوته إلى إلحاق لبنان بسوريا، وإقامة منطقة اقتصادية خالصة في الجنوب اللبناني، وصولًا إلى ما قاله بالأمس في حديث صحافي عن أن إسرائيل لن تنسحب من النقاط الحدودية الخمس، التي تحتلها.
وإذا أراد المرء أن يعرّج على كل ما أدلى به منذ اليوم الأول لتسّلم مهامه حتى اليوم لا يستطيع أن يحصي عدد "الفولات" التي ارتكبها برّاك في حقّ لبنان واللبنانيين.وقد تكون إهانة الصحافيين المعتمدين في القصر
الجمهوري واحدة من بين عدد لا يُحصى من الاهانات، التي وجهها برّاك إلى لبنان واللبنانيين عكس سلفه آموس هوكشتاين، الذي كان يزن كلماته بميزان الجوهرجي.
فما أدلى به الموفد الأميركي في آخر حديث له كشف في شكل لا لبس فيه الموقف الأميركي من تطورات الوضع في المنطقة، وبالأخصّ في لبنان، إضافة إلى ما تسعى إليه إسرائيل في محاولة منها لتكريس معادلة جديدة في الجنوب اللبناني. ولا بد من الإشارة إلى أن مواقف برّاك تزامنت مع الذكرى الأولى للحرب
الإسرائيلية الشاملة، والتي نتج عنها سقوط مئات من الشهداء والمصابين وتدمير قرى بأكملها وتهجير ما لا يقّل عن خمسمئة ألف جنوبي من قراهم.
فإذا أردنا اختصار الموقف الذي أعلنه برّاك، وهو بطبيعة الحال الموقف الأميركي الرسمي، فيقع الاختيار على ثلاث نقاط تختصر المشهدية المنتظرة لما يُعدّ للبنان للمرحلة الآتية:
النقطة الأولى تتمحور حول النظرية القائلة بأن أمن إسرائيل واستقرارها هما أولوية بالنسبة إلى الإدارة الأميركية. وهذه النظرية تنطلق من مقولة بأن كل ما تقوم به إسرائيل من أعمال عدائية مبرّرة، وبالتالي فإن تبنّي واشنطن للسياسة التي تتبعها تل أبيب تجاه لبنان و"
حزب الله" بالتحديد هو نوع من التماهي الانسيابي مع ما يُعدّ ويطبخ في دوائر حكومة الحرب في تل أبيب من مخطّطات تلقى موافقة أميركية مسبقة. وهذا ما يفسّر قوله برّاك بأن الجيش
الإسرائيلي لن ينسحب من التلال الخمس، مما يعزّز الشعار المرفوع في
الولايات المتحدة الأميركية والقائل "انصر إسرائيل ظالمة كانت أم ظالمة".
النقطة الثانية هي تحميل الحكومة
اللبنانية مسؤولية عدم تنفيذ خطّة "حصرية السلاح" بالسرعة المطلوبة أميركيًا. وما قوله بأن هذه الحكومة تكتفي بالبيانات من دون أن تقرن ذلك بأفعال على الأرض، سوى صبّ الزيت على نار الفتنة الداخلية.
أمّا النقطة الثالثة فهي التعبير عن قلق واشنطن من استمرار تدّفق الأموال إلى "حزب الله" بمعدل 60 مليون دولار أميركي شهريًا، على ما كشفه برّاك في حديثه. وهذا الأمر يسمح لـ "الحزب" بإعادة تنظيم صفوفه وعودته إلى ساحات المواجهة بقوة، وهذا ما ألمح إليه
الأمين العام الشيخ نعيم قاسم.
فالكلام الأميركي، الذي جاء على لسان برّاك، سبق أن قاله أكثر من مسؤول وسيناتور أميركي، وهو يكشف انحياز واشنطن لتل أبيب من دون أي مناقشة. وهذا يعني أن لبنان، الذي اعتقدت حكومته أنها تجاوزت الخطّ الأميركي الساخن من خلال القرارات، التي اتخذتها في جلسات 5 و7 آب و5 أيلول، اكتشفت بأنها مطالبة بأكثر مما أقدمت عليه، خصوصًا أن المهلة التي أعطتها لنفسها سمحت، برأي
الأميركيين، لـ حزب الله" باستعادة نشاطه المتجسّد بفرض رأيه بالنسبة إلى رفضه تسليم سلاحه إلى الجيش، حتى أن مسؤوليه يتمادون في تحدّي الدولة والاجماع اللبناني بالنسبة إلى حصرية السلاح، مع ما يلوح في الأفق من أزمة قد يكون لها مؤشرات سلبية، خصوصًا إذا استطاع "حزب الله" أن يضيء صخرة الروشة بصور السيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين على رغم أنف الحكومة، التي سبق لرئيسها أن دعا إلى عدم استخدام المعالم الأثرية لأغراض خاصة ما لم تحصل على اذن مسبق.
وليس صدفة أن تتزامن مواقف برّاك مع ما تعلنه إسرائيل عن ارسال المزيد من التعزيزات العسكرية في اتجاه الحدود اللبنانية، بالتزامن مع الاجتماعات المكثفة التي يعقدها نتنياهو مع مسؤوليه العسكريين للبحث في الوضع على مختلف الجبهات. وهو ما يشير إلى التحضير الإسرائيلي لحرب جديدة على مستوى المنطقة، انطلاقًا من الساحة اللبنانية.