Advertisement

لبنان

صخرة تهز دولة

Lebanon 24
27-09-2025 | 23:18
A-
A+
Doc-P-1422384-638946374242780778.jpg
Doc-P-1422384-638946374242780778.jpg photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
كتبت الدكتورة بولا أبي حنا في "نداء الوطن":
Advertisement
 
 
في بلد مثل لبنان، كل طائفة تسعى إلى شدّ العصب الداخلي عبر الاستحواذ على الرموز العامة. لا يهمّ إن كان ذلك على شاطئ أو في ساحة أو عند معلم طبيعي. المهم أن يُقال للآخرين: "نحن هنا"، حتى لو كان الثمن كسر قرار رسمي. قرار رئيس الحكومة بعدم استخدام الأملاك العامة بدا كأنه امتحان مباشر: هل تستطيع الدولة أن تفرض كلمتها؟ والجواب أتى سريعاً: لا.
 

هذا النمط ليس جديدًا. فمنذ عقود تُستعمل الرموز الوطنية لتثبيت مواقع الطوائف في معادلة السلطة. لكن الخطورة تكمن في أن هذه الرموز – التي يُفترض أن تكون جامعة – تتحول إلى أدوات انقسام. الروشة، صورة بيروت أمام العالم، صارت فجأة ساحة استعراض طائفي. وما يحدث هنا يعيد إلى الأذهان ما جرى في تجارب دول أخرى: في البوسنة والهرسك بعد اتفاق دايتون، تحولت الرموز والمناطق الحساسة إلى أدوات تقسيم بين المكوّنات الطائفية؛ في العراق بعد 2003، صارت الساحات والشوارع مرآة للقوة الميليشياوية، لا لسلطة الدولة؛ واليوم، في لبنان، يتكرر المشهد: الرموز العامة تُستباح لتغذية العصبيات، فيما الدولة تتفرج.
 

الدرس الذي تقدمه حادثة الروشة هو أن لبنان يعيش في دولة تهتزّ من أصغر الأحداث. قد يبدو ذلك "طبيعيًا" في نظام طائفي، حيث تُضخّم التفاصيل عمدًا لإعادة إنتاج الولاءات. لكن الطبيعي في منطق الطوائف ليس مقبولاً في منطق الدولة. الدولة لا تُبنى على التسويات الظرفية، ولا على التغاضي عن الاستفزازات، بل على سيادة القانون والمساواة أمامه.
 

الروشة صنعت "دوشة" هذا الأسبوع، لكنها لم تزعج العشاق كما في الأغنية، بل أزعجت فكرة الدولة نفسها. والرسالة التي تخرج من بين الأمواج واضحة: ما لم يُعاد الاعتبار إلى الدولة كمرجعية فوق الجميع، ستبقى الأملاك العامة مسرحًا للاستفزازات، وستبقى الدولة فكرة مؤجلة، لا كيانًا ثابتًا.
 

وكتبت الدكتورة جوسلين البستاني في" "نداء الوطن ":في ليلة الخميس الماضي، عرض "حزب اللّه" صور أمينه العام السابق السيد حسن نصراللّه، ورئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين، على صخرة الروشة الشهيرة في بيروت. للوهلة الأولى قد يبدو المشهد تكريمًا لقيادات راحلة، لكن القراءة السياسية تكشف أنه كان فعلًا مدروسًا في إطار الحرب النفسية التي يديرها "حزب اللّه" داخل لبنان.
 

الرسالة كانت واضحة: نحن هنا، نحن لبنان، ولبنان هو نحن. من خلال عرض صور قادته على صخرة الروشة، حاول "حزب اللّه" طمس الحدود بينه وبين الكيان اللبناني. هذا ما يمكن تسميته استيلاءً على الهوية، أي مصادرة الرموز الوطنية المشتركة وتوظيفها في خدمة هوية حزبية وطائفية. بالنسبة لمناصري "حزب اللّه"، جسّد العرض انتصارًا وترسيخًا لهويتهم داخل "صورة لبنان"، وكان المشهد باعثًا على الفخر والصمود والانتماء. أما بالنسبة لخصومه، فقد شكّل سلبًا لمعالم مدنية وتحويلها إلى مزار حزبي مُقسِّم. إذ إن تحويل هذا الرمز المدني إلى شاشة حزبية يعني مصادرة هوية وطنية لصالح مشروع فئوي. وبهذا تحوّل إلى إهانة مباشرة وشعور بالاغتراب عن الوطن، إذ بدا وكأن معلمًا وطنيًا يُختطف ويُسخَّر لإعادة إنتاج صورة ميليشياوية. إن تحويل الروشة إلى شاشة حزبية ليس مجرّد عرض ضوئي؛ بل هو إعلان عن سيطرة رمزية على قلب العاصمة. لكنه في الوقت نفسه اعتراف ضمني بالهشاشة. فمن يكتفي بإسقاط صور على الحجر إنما يُقرّ، من حيث لا يريد، بفقدان القدرة على صناعة واقع في الميدان.
 

فخلف هذه الاستعراضات يختبئ فراغ أكبر. فـ "حزب اللّه"، الذي طالما قدّم نفسه رأس حربة "المقاومة"، يجد نفسه اليوم عاجزًا عن مواجهة إسرائيل ميدانيًا: لا يجرؤ على التصعيد، ولا يستطيع تحقيق إنجاز عسكريّ. لذلك يلجأ إلى ما هو أقل كلفة وأكثر رمزية: عروض بصرية وصوتية داخل لبنان. وما عجز عن فعله بالسلاح، يحاول تعويضه بالصورة.
 

عرض صخرة الروشة ليس حدثًا معزولًا، بل جزءًا من استراتيجية أوسع يعتمدها "حزب اللّه" في مواجهة خطاب نزع السلاح. فمن خلال الاستيلاء على الهوية، أصبحت الميليشيا هي الأمّة، بعد أن وفّرت لنفسها العزّة والكرامة عبر التلاعب الانفعالي، وصولًا إلى تصويرها كضرورة وطنية لا كقوة طائفية، وذلك بفعل إعادة التأطير التضليلية. ثم جرى تحويل طقوس الشهادة والموت إلى انتصار، ما ولّد التبجيل لدى الأنصار.
 
 
وأخيرًا، في الخطاب الإعلامي، تمكّن "حزب اللّه" من إزاحة السردية التي تُخفي واقع اعتداءاته على الأفرقاء الآخرين، والتي لطالما أنكرها مصوّرًا نفسه كضحية أو كحامٍ. يختزل عرض صخرة الروشة إذًا منهج "حزب اللّه" في الحرب النفسية في لحظة ضعف استراتيجي. لكنه لم يكتفِ بخطف صخرة الروشة، بل خطف معها ما تبقّى من صورة الوطن المشترك، محوّلًا رمزًا مدنيًا جامعًا إلى شاهدٍ على سطوة الميليشيا وسط عجز الدولة وصمتها.  

مواضيع ذات صلة
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك