كان البابا الراحل فرنسيس يرغب في أن يزور
لبنان أكثر من أي بلد آخر. لكن تعاطي بعض من كانوا في سدّة المسؤولية بخفّة مع الرغبة البابوية قد حال دون تحقيقها. وبذلك ضيّع لبنان فرصة الالتقاء ببابا التواضع والبساطة، الذي كان يكّن لهذا البلد الكثير من المشاعر الأخوية لما يوحي له من معانٍ تتخطّى بمدلولاتها المفهوم العام لمنطق الدول العادية، التي لا ينطبق عليها الوصف الذي أطلقه البابا القديس يوحنا بولس الثاني، الذي رأى فيه أكثر من بلد عادي، ورفعه إلى مستوى الرسالة الإنسانية والحضارية.
فالزيارة المرتقبة لقداسة الحبر الأعظم البابا لاوون الرابع عشر للبنان تحمل معها بشائر أمل وأبعاداً غير محدودة بما فيها من دعم بابوي معنوي وروحي وسياسي لهذا البلد، الذي عانى كثيرًا، ولا يزال يعاني من مآسٍ وكوارث ومشاكل وأزمات متراكمة منذ اليوم الأول، الذي فقدت فيه الدولة ما كانت تتمتع به من حصريات لا تعدّ ولا تُحصى.
فزيارة البابا لاوون الرابع عشر للبنان ليست حدثًا عاديًا، ولا مجرد محطة رعوية يطويها الزمن مع انتهاء الزيارة. إنها بمثابة جرس يُقرع في قلب هذا الشرق المضطرب، ليذكّر العالم أجمع بأن في هذه البقعة الصغيرة من
الكرة الأرضية وطنًا اسمه لبنان، وُجد ليكون أكثر من وطن، وُجد ليكون رسالة.
فحين تطأ أقدام الحبر الأعظم أرض لبنان، يستعيد اللبنانيون شعورًا عميقًا بأن وطنهم ليس متروكًا لقدره ولا محكومًا بالزوال. فالفاتيكان، وإن لم يمتلك جيوشًا ولا أدوات ضغط دنيوية، يحمل قوة روحية ومعنوية قادرة على إعادة لبنان إلى خارطة الاهتمام الدولي.
فهذه الزيارة المرتقبة والمنتظرة لقداسة البابا قد تكون دفعا جديدا لإحياء فكرة سيادة لبنان واستقلاله، وتذكير القوى الإقليمية والدولية على السواء بأن هذا الوطن لا يجوز أن يبقى ساحة لتصفية الحسابات على حساب شعبه.
لكن الرسالة الأعمق من هذه الزيارة البابوية تتجاوز السياسة المباشرة. إنها نداء إلى اللبنانيين أنفسهم. فالبابا، حيثما يذهب، لا يحمل معه سوى لغة واحدة هي لغة الوحدة والمصالحة والسلام. ففي بلد كلبنان أنهكته الانقسامات والولاءات المتناحرة، تصبح هذه الزيارة دعوة صريحة للعودة إلى أصل الفكرة
اللبنانية، أي دولة لجميع أبنائها، لا غلبة فيها لطائفة ولا خضوع فيها لهيمنة الخارج.
أما في نظرة الفاتيكان إلى الشرق، فإن لبنان يشكل حجر الزاوية. فالحضور المسيحي في المنطقة يتراجع تحت وطأة الحروب والهجرة، لكن لبنان ما زال الملاذ الذي يبرهن أن العيش المسيحي – الإسلامي ليس مستحيلًا. لذلك يولي الكرسي الرسولي أهمية مضاعفة لبقاء
المسيحيين في أرضهم، معتبرًا أن الحفاظ على لبنان هو الحفاظ على جذور
المسيحية في الشرق.
ولعلّ هذه الزيارة تحمل في طياتها صدى زيارة البابا يوحنا بولس الثاني عام 1997، يوم أعلن عبارته الشهيرة: "لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة". كانت تلك العبارة بمثابة إعلان هوية، ورسخت في الذاكرة اللبنانية والعالمية فكرة أن لبنان لا يُقاس بمساحته ولا بإمكاناته المادية، بل برسالته الحضارية.
واليوم، في ظل الأزمات المتلاحقة، تأتي زيارة البابا لاوون الرابع عشر لتعيد التذكير بأن الرسالة لم تسقط، وأن استعادة لبنان لسيادته واستقلاله ليست ترفًا سياسيًا، بل شرط لبقاء هذا الوطن حيًا في قلب الشرق. هي لحظة تاريخية، يتعين على اللبنانيين أن يلتقطوها. هي فرصة لاستعادة الأمل في وطنهم، وفرصة للعالم كي يدرك أن إنقاذ لبنان هو إنقاذ لفكرة التعددية والحرية في الشرق بأسره.
وفي برنامج الزيارة لقاءات روحية مع البطاركة والمطارنة والكهنة والرهبان والراهبات في بازيليك سيدة لبنان في حريصا، كذلك لقاءات مع الشبيبة في الصرح البطريركي في بكركي، على ان يقام قداس إلهي حاشد عند الواجهة البحرية لبيروت، إضافة الى لقاء في ساحة
الشهداء تحت عنوان: الحوار المسيحي- الاسلامي، ستشارك فيه شخصيات معنية بالحوار ورجال دين من كل الطوائف.
ومن بين الزيارات اللافتة التي سيقوم بها البابا، زيارته لدير مار مارون - عنايا حيث مزار القديس شربل، وهذه المرة الاولى التي يزور فيها حبر أعظم هذا الموقع، الذي له دلالات معنوية كثيرة بالنسبة الى جميع اللبنانيين ومن كل الطوائف.
فزيارة الحبر الأعظم للبنان تأتي في التوقيت المناسب "لانّ اللبنانيين تعبوا من كل ما يعانونه من حروب وانقسامات داخلية".