بدا جلياً أن الخطة التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، لا تشكل مجرد مبادرة دبلوماسية ظرفية، بل هي مشروع يسعى إلى إعادة صياغة قواعد الإقليم، ولو على حساب التوازنات الفلسطينية والعربية. فالنسخة الأولى التي عرضت على عدد من القادة العرب والمسلمين اتسمت بقدر من المقبولية السياسية، غير أن تدخل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قلبها رأساً على عقب، إذ ربط الانسحاب من غزة بمسار متدرّج لنزع سلاح حركة حماس، مانحاً إسرائيل عملياً حق الفيتو على أي تنفيذ، ومحولاً الخطة إلى صيغة وصاية دائمة.
هذا التحوير أثار استياءً في عواصم محورية مثل القاهرة والرياض وعمان وأنقرة، فيما حاول الوسيط القطري ثني واشنطن عن كشف تفاصيل التعديلات. لكن البيت الأبيض مضى في الإعلان، فارضاً على الأطراف المعترضة خيار التكيّف مع الواقع الجديد. وزاد من حدة الاعتراض أن الخطة نصّت على إنشاء هيئة انتقالية دولية برئاسة ترامب نفسه، تضم شخصيات مثيرة للجدل على غرار توني بلير، لتشرف على لجنة فلسطينية مؤقتة تدير القطاع.
وفي غزة، قرأت أوساط حماس الأمر كتصفية سياسية وفرض وصاية غربية – إسرائيلية، خصوصاً في ظل غياب جدول زمني للانسحاب وضمانات لأمن قادتها في الخارج. ورغم الضغوط القطرية لحملها على القبول، تتمسك الحركة بالتشاور الداخلي ومع الفصائل، فيما يلوّح ترامب بمهلة لا تتجاوز أربعة أيام، محذراً من أن الرفض سيقود إلى "الجحيم".
في المقابل، لم يخل المشهد الإسرائيلي من تناقضات لافتة: وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عدّ الخطة تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي، بينما شدد
وزير الخارجية على رفض أي تعديل جديد عليها، ما يعكس صراعاً داخل المؤسسة الحاكمة حول مرحلة ما بعد الحرب.
تكشف الخطة الأميركية في صورتها النهائية عن تداخل مركّب مبني على رغبة واشنطن في فرض تسوية سريعة تضع حداً للنزيف، مقابل إصرار إسرائيلي على تكريس قواعد أمنية جديدة، ورفض فلسطيني يرى في الطرح إملاءً يختزل القضية في ترتيبات إدارية وعسكرية. أما
لبنان، فيطل من خلفية هذا المشهد كجبهة موازية، فالموفدون الغربيون والعرب ينقلون إلى
بيروت رسائل صريحة بأن أي انسحاب إسرائيلي من التلال الخمس مشروط بخطوات ملموسة تجاه سلاح
حزب الله، وسط تحذيرات غربية من أن المماطلة قد تدفع إسرائيل إلى تصعيد عسكري جنوباً. وجاء موقف السيناتور
الجمهوري ليندسي غراهام ليعزز هذا الربط حين اعتبر أن "التطبيع في
الشرق الأوسط لن يمر إلا بإبعاد حزب الله عن الطاولة".
بهذا المعنى، لا تقف خطة ترامب عند حدود غزة، بل تفتح الباب أمام إعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة، حيث تتقاطع الضغوط الأميركية – الإسرائيلية مع رفض فلسطيني متصاعد، وحذر عربي، واندفاع سوري لاتفاق أمني مع تل أبيبب، فيما يجد لبنان نفسه مهدداً بأن يتحول إلى ساحة اختبار إضافية لموازين القوى الجديدة، وهنا يؤكد حزب الله أن خيار المقاومة باق، وأنه لن يسمح بتمرير أهداف العدو في الداخل، رافضاً منطق الواقعية السياسية الذي يسوق له خصومه باعتباره الطريق الوحيد للاستقرار، فالمعادلة بالنسبة إليه ليست استسلاماً أمام الضغوط، بل مواجهة مفتوحة عنوانها منع إسرائيل من تكريس وصايتها على مستقبل المنطقة.